الحياة مع الأشباح... بعيداً عن السياسة!

نشر في 25-02-2013
آخر تحديث 25-02-2013 | 00:01
 يوسف عبدالله العنيزي الحياة الدبلوماسية ليس كمثلها حياة، ومن يمارسها فلابد أن يحظى بصفات مهمة، لعل أهمها القدرة على تحمّل الغربة والتكيف مع المجتمعات المختلفة مهما كانت، وكذلك موهبة في كسب الأصدقاء وتكوين شبكة من المعارف مختلفي المناصب والصفات... وكم يكون رائعاً إذا شمل ذلك كسب أصدقاء من العالم الآخر!

لا تخلو تلك الحياة من المواقف والأوقات الصعبة أو السارة أحياناً، والقيام بزيارات إلى أماكن لم تكن تسنح لك فرصة زيارتها لولا الحياة الدبلوماسية بكل ما فيها من حل وترحال.

والدبلوماسي بتنقله من بلد إلى آخر، فإنه بالضرورة ينتقل من سكن إلى آخر قد يكون مختلفاً تماماً، وبودي أن أسرد مشاهداتي "بين بيتين"، ففي مدينة صوفيا عاصمة جمهورية بلغاريا الصديقة كان السكن مخصصاً لإقامة أمين عام الحزب الشيوعي البلغاري الحاكم قبل تغير النظام إلى الرأسمالية.

كان السكن يتصف بالضخامة ويحتوي على سردابين؛ أولهما سرداب عادي، لكن في أحد أركانه توجد غرفة صغيرة مع بوابة لا تكاد تكفي لعبور شخص واحد ليهبط إلى السرداب الثاني عبر سلم صغير، وإضاءة بالكاد تسمح لك برؤية موطئ قدميك تنتهي بك إلى قاعة صغيرة في وسطها بوابة من الفولاذ تفتح بواسطة قفل على شكل مقود السيارة (السكان) تؤدي إلى قاعة صغيرة تحتوي على بعض أسرة النوم، وبعض المأكولات المجففة، والأدوية والمحاليل، وإضاءة زرقاء داكنة... إنه "المخبأ النووي" لبعض أعضاء الحزب الشيوعي الحاكم!

أما أرضية السرداب الأول فقد كانت دائمة التشقق، فلا نكاد نقوم بإصلاح جانب حتى يحدث تشقق في جانب آخر! والغريب في الموضوع أنه إذا "أقبل الليل" تبدأ أصوات غريبة ومختلفة في كل أرجاء المنزل لا أحد يعرف طبيعتها أو مصدرها!

لم أشغل نفسي بمعرفة مصدر الأصوات أو طبيعتها أو أسباب حدوث تلك التشققات، وعشت في ذلك المنزل ما يقارب أربع سنوات لا أشك في أني كنت ضيفاً على أصدقاء من عالم آخر آنست بهم كما أنسوا بي!

في عام 2007 نقلت للعمل سفيراً لدى مملكة هولندا الصديقة، كان السكن الذي يقع في مدينة لاهاي مقر البعثة الدبلوماسية يشمل حديقة واسعة بمساحة تقدر بحوالي اثني عشر ألف متر مربع، مع أشجار تتجاوز عمرها المئة عام.

كان البناء قديماً ويقع في أحد زوايا هذا الاتساع، وهو ما يشعرك أنك وحيد في هذا العالم، لكن الواقع كان عكس ذلك، فقد كان المنزل يسكنه أهله قبلنا ولكنهم كرماء، إذ قبلوا بنا ضيوفاً عندهم! "فعندما يأتي المساء"... يبدأ ساكنوه بالتجوال في الغرف والممرات على هيئة خيالات لا ترى ولكن يمكن الشعور بها أحياناً.

في إحدى الليالي وعندما كنت عائداً من أحد الاستقبالات الرسمية وأثناء توجهي إلى غرفة النوم، أحسست أن هناك من يمشي خلفي، ظننته في بادئ الأمر أحد العاملين في المنزل، فسألته عمّا إذا كان يريد شيئاً؟ فلم أتلقَ جواباً... عندها تسمرت في مكاني فتوقف من كان خلفي، وعند التفاتي تلاشى من كان خلفي بسرعة مذهلة، فلم أتمكن حتى من رؤية الهيئة التي كان عليها، ولا أعلم كيف قضيت تلك الليلة!

لكن زخم تلك الليلة الليلاء تلاشى مع مرور الأيام حتى جاءت ليلة أخرى سمعت فيها أثناء نومي أنين امرأة، فرفعت اللحاف بسرعة ونظرت إلى مصدر الصوت، فلم أرَ إلا كومة من السواد تلاشت بسرعة غير طبيعية!

قرأت بعض آيات القرآن الكريم ثم أكملت نومي، وذلك لإيماني المطلق بأنه لن يضرني أو ينفعني إلا من خلقني.

وجاءت "ليلة الليالي"... وذلك عندما سمعت أنا وكل العاملين معي في المنزل صوتاً يشبه النواح يخلع القلب من مكانه، وكان مصدره إحدى الزوايا المظلمة.

في الحديقة الواسعة... التقى جميع العاملين، وتسلحنا بما توافر من معدات المطبخ والتنظيف والعصي وغيرها، وقمنا بتكوين جيش صغير من جنسيات مختلفة من مصر والفلبين والهند وبالطبع أنا، قمنا بفتح الباب المؤدي إلى الحديقة، وما كدنا نخطو الخطوة الأولى وإذا بشيء ما قد تحرك بسرعة فائقة بين الأشجار العملاقة ليختفي في الظلام، ولا ندري حتى الآن ما هو ذلك الشيء أو كنهه؟... وبالطبع قررنا في تلك الليلة أن نتجمع في غرف متجاورة مع وضع الهواتف الثابتة والنقالة في حالة طوارئ... أضف إلى ذلك الكثير من المشاهدات التي اعتدنا عليها، فنشأت بيننا وبين ساكني المنزل وأهله صداقة وألفة!

ولعل من بين تلك المشاهدات مشهداً لن أذكره، لأني أحاول أن أمحوه من تفكيري.

ما يحيرني في الموضوع حتى الآن كيفية اكتساب هؤلاء الأصدقاء القدرة على التشكل بهيئات مختلفة، والقدرة على التلاشي إلى ذرات معدومة الحيز والمكان، مع إيماني بأنه لا توجد لديهم النية لإيذائنا، كما أنه ليس لدينا القدرة على إيذائهم... إذن الدنيا والعالم والكون يسع الجميع فما بالك بالوطن.

حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.

back to top