«جدلية العقل والمدينة» لمحمد المصباحي إعادة النظر في آليات التفكير

نشر في 10-05-2013 | 00:01
آخر تحديث 10-05-2013 | 00:01
No Image Caption
صدر أخيراً عن {منتدى المعارف} كتاب {جدلية العقل والمدينة... في الفلسفة العربية المعاصرة}، تحرير وتقديم الدكتور محمد المصباحي وتعليقه. يشارك في الكتاب عدد من المفكرين بمواضيع مستقلة بعضها عن بعض بإشكالياتها.
يضم كتاب {جدلية العقل والمدينة... في الفلسفة العربية المعاصرة} موضوعاً واحداً لكل من المفكرين الستة: محمد عزيز الحبابي، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، محمد أركون، حسين مروة، وناصيف نصار، وكل من المواضيع له إشكاليته الفكرية الخاصة المستقلة عن إشكالية الآخر، بأسئلته ومفاهيمه وحلوله ورهاناته. غير أن الكتَّاب يشتركون على الأقل في الدعوة إلى أمرين أساسيين هما: العقل والتاريخ.

يحمل المفكرون همّ زرع العقلانية والتاريخانية في الأمة لإعادة تربيتها وإعادة قراءة تاريخها وتراثها كي تصبح قادرة على التعاطي مع الحداثة من موقع الاعتزاز بالذات، والإقدام على الفعل التاريخي الخلاق. لم يحبسوا إشكالياتهم ضمن حيز دلالي أو تأويلي فحسب، بل راموا أيضاً فتحها على آفاق التغيير. ذلك أن إعادة النظر في دلالات العقل والتاريخ لا تكفي لتشييد {عصر أنوار عربي جديد}، بل لا بد من تأويلهما تأويلاً حديثاً قادراً على تعبئة الجمهور للقيام بالتغيير المنشود الذي يحقق الاستقلال التاريخي. كانوا جميعاً يفكرون بالنهضة، بحثاً عن أسباب فشلها المبكر، وتنقيباً عن طرق بعثها على شكل {نهضة عربية ثانية} أو {عصر تدوين جديد}، فكان العقل مفتاحاً أولياً لمراودة حلمهم.

العقلانية

يرى مؤلف الكتاب

د. محمد المصباحي أنه حصل بين الفلاسفة العرب نوع من الإجماع الضمني على وجوب إعادة النظر في العقل بآلياته وتجلياته المختلفة، خصوصاً العقل التراثي، إيماناً منهم بأنه المسؤول عن التأخر التاريخي الذي تعانيه الأمة. ولم تكن الغاية من مشاريعهم لتحديث العقل منهجياً وايبيستيمولوجياً غاية تقنية هي إصلاح العقل باعتباره آلة للوصول إلى الحق، بل كانت غاية استراتيجية هي إصلاح الذات، وعياً منهم بأن العقل يشكل قوام الذات العربية الإسلامية، إن لم يكن هو تلك الذات بعينها. ولذلك لم تكن الغاية من إكراهاته الأيديولوجية والثقافية، أن يستعيد حريته في التفكير والعمل والإبداع خارجاً عن كل وصاية مذهبية أو ثقافية فحسب، بل أيضاً لأجل كتابة تاريخ جديد بالمعنى القوي للكلمة. فهذا التوجه النضالي لمشاريعهم الفكرية (إصلاح الذات وتغيير الوجود التاريخي) قد أضفى عليها طابعاً تنويرياً، سواء كان التنوير بمعناه الفكري أو السياسي.

يلفت المصباحي إلى أن إعادة بناء العقل العربي الإسلامي لا يمكن أن تتم بعيون باردة أو بقلوب محايدة، وإنما بضمير حي وعقل ملتزم بتغيير التاريخ من تاريخ منفعل إلى تاريخ فاعل، وتحويل التراث من مناهض للحداثة إلى محتضن لها. وقد جرى التفكير في حل التقابل بين التاريخين المنفعل والفاعل عبر سبيلين شهيرين: سبيل القطيعة مع العقل التراثي أملاً في الانخراط مباشرة في تحديات العقل الحداثي الكوني (التقابل الضدي، عبدالله العروي)، وسبيل ترميم ما تبقى من مظاهر التنوير في العقل التراثي لتأهيله للانفتاح بثقة واعتزاز على العقل الحداثي ضماناً للاستقلال التاريخي للذات (التقابل الإضافي عند الجابري وأركون ونصار). يصدر الموقفان عن رؤيتين متقابلتين، إحداهما تلتزم بالعقلانية الكونية، والثانية تنحاز إلى عقلانية محلية مطعمة بالعقلانية الكونية، إلا أنهما معاً يؤمنان عقلاً واحداً هو عقل التنوير، ما يدل على أن بينهما علاقة إضافية لا ضدية. ولعل جاذبية {عقل التنوير} آتية من كون فعله هو من القوة والتأثير إلى درجة يكاد معها أن يكون فعلاً أنطولوجياً قادراً على إحلال وجود مكان وجود آخر، واستبدال خلق بخلق جديد مؤمن بنفسه وبحريته وحقوقه الفكرية والعقدية والعملية. بهذه الجهة يصبح التنوير مكيالاً أعلى يقاس به مدى قدرة الثقافات التقليدية على الانخراط في مسيرة الحداثة والتقدم، التي هي مسيرة الكرامة والإبداع.

التاريخانية

يكشف الكتاب عن أن اكتشاف التاريخ، باعتباره محرك الوجود البشري، هو الركن الثاني من التفكير المشترك بين المفكرين العرب الذين نحن بصددهم، فبث {الحس التاريخي} ونشر {التفكير العقلاني} تقاسما على السواء رسالتهم الفكرية، ما دام كل واحد منهما يوجد في قلب الآخر ويؤدي إليه. صحيح أن البيئة الفكرية التي نشأت فيها التاريخانية لم تكن ودية تجاه التنوير، ومع ذلك فقد أبى هؤلاء المفكرون إلا أن يوظفوا التاريخانية في مهمة مناصرة العقلانية، فكان إيمانهم بأن العقل وراء كل شيء في المعرفة والوجود، يضاهي اعتقادهم بأن التاريخ وراء كل شيء في النفوس والمجتمعات.

وبحكم استقلال إشكاليات المفكرين الستة، كان من الطبيعي أن تتباين أسماء تاريخياتهم، حيث يمكن أن نتكلم عن تاريخانية أيديولوجية (الجابري)، تاريخانية إيبيستيمولوجية (أركون)، تاريخانية فلسفية (العروي)، تاريخانية جلية (مروة)، تاريخانية أنطولوجية (الحبابي)، وتاريخانية سياسية (نصار). بيد أن هذا التباين لم يمنعهم من أن يشتركوا في اعتبار التاريخانية {مقياس المعاصرة}، أولاً، لأن حداثة الأفكار والتصورات والنظريات والعقائد والسلوكيات والتواريخ، تقاس بمقدار ما يبث فيها من تاريخية (العروي)؛ وثانياً، لكون التاريخانية جاهزة دائماً لتقديم بديل تاريخي قادر على إخراج العرب والمسلمين من مأزقهم الحضاري الذي يتخبطون فيه منذ زمن طويل.

يشير محمد المصباحي إلى أننا أمام تاريخانيتين متقابلتين: تاريخانية العقل وتاريخانية التاريخ. الأولى، تدرج التراث في بيئته الفكرية والتاريخية كي لا يستعيد معناه عن طريق النقد الدلالي؛ والثانية، تنزع التراث نفسه من سياقه الأصلي وتزرعه في الحاضر ليغدو كجزء منه ويسهم في تغييره بعد تأويله. إلا أن التاريخانيتين تلتقيان معاً في مهمة تحرير التراث وتحريرنا من استلابه للتفرغ بثقة في بناء الحاضر بعد أن نكون قد استوعبنا الماضي عن طريق الحاضر.

يضيف المصباحي، أنه وفي مقابل الفكر اللاتاريخي، الذي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى التبعية، جراء عجزه عن إدراك الواقع كما هو، وتخبطه واستغراقه في مقابلات عقيمة كالتقابل بين الأصالة والاتباع، بين الحكمة والشريعة، بين الحداثة والتراث، بين العرفان والبرهان، يقوم الفكر التاريخاني بدور حاسم في تحقيق الاستقلال التاريخي عن التراث والحداثة معاً. ذلك أن عملية إدراج العقل العربي الإسلامي التراثي (بمسمياته وعلومه المختلفة)، والعقل الغربي الحداثي (بصيغة الحداثية وما بعد الحداثية) في مجراهما التاريخي، من شأنه أن يعرفنا على حيثيات نشأتهما ومكامن قوتهما وضعفهما، وينبهنا إلى حدودهما ونقاط تقابلهما والتقائهما، ما يحثنا على تجاوزهما معاً.

back to top