قيروان «بول كلَيه»

نشر في 26-12-2013
آخر تحديث 26-12-2013 | 00:01
 فوزي كريم هذا أوسع معرض حظيتُ به من الفنان السويسري «بول كلَيه» (1879 - 1940) في لندن. فقد أعطى له غاليري «تيْت مودرن» 17 قاعة، موزعة وفق سنوات نشاطه وتطوره.

نشأ «بول كليه» في أول مراحل نشأته في مناخ موسيقي، أنضج موهبته الطبيعية الكامنة فيه: كان أبوه يدرّس الموسيقى في كلية في بيرن، وأمه مغنية. وهو يعزف آلة الكمان منذ مرحلة مبكرة في مدرسته.إن مشروع الفنان في داخله بدأ ينضج بطيئاً وهو في مرحلة الدراسة. على أنه لم يستقر على قرار في أن يكون رساماً أو موسيقياً. وبالرغم من أنه اختار أن يدرس الفن في ميونخ، ظل حتى عام 1906 يمارس عزف الكمان كوسيلة عيش. في عام 1899 كان قد التقى عازفة البيانو ليلي ستامبف، التي ستصبح زوجته عام 1906. ولكن هاجس الرسام اندلع في داخله ولم يُطفأ حتى آخر حياته، وأصبح الولع الموسيقي مُغذياً.

وكما تأثر «بول كليه» بالموسيقى في تقنيته الفنية كذلك تأثر، وبنفس العمق، بالفن العربي الإسلامي. حين ذهب إلى تونس عام 1914 وهو في الأربعة والثلاثين من العمر، وقضى هناك أسبوعين في مدينة وجامع القيروان، كتب في يومياته: «الآن يتملكني اللون... وسوف يتملكني أبداً. إنني على معرفة به... فاللون وأنا كيان واحد». واللون هنا بفعل تأثير الصحو المتوسطي في السماء والبحر، وبفعل سطوة الشمس والحرارة، وبفعل لون الآجر القديم وزخرفه في الجدران، ونسيج السجاد الذي يفيض على الذائقة الفنية ويُغرقها، أصبح يتحلل تحت يده إلى غرائب درجاته الخفية. ما من خلاف بين نقاده على «عمق تأثير القيروان على حساسية عينيه وعلى مخيلته الفنية. القباب، المنائر والنخيل دخلت قاموسه البصري، ولكن المزججات المطعمة فيما وراء المحاريب، وكذلك محلات نساجي البسط بمستطيلاتها ومثلثاتها وتصاميمها التقليدية أسهمت بصورة خاصة في الأشكال المعمارية لمائياته الشفافة».

قبل هذه المرحلة كان «كليه» كثير التجوال في أوروبا وكثير الانتفاع من مراحل الرسم فيها: عصر النهضة، وليم بليك، غويا، الرمزيين الألمان، والتعبيريين الألمان كصحبة مباشرة، وإلمام بكاندنسكي، ديلونيه، براك، بيكاسو وماتيس، ومع ذلك لم يكن قد اطمأن بعد على كفاءته وقدرته. كان كل فنه غرافيكياً، ودعابته الهجائية واضحة حتى كان أقرب إلى الفنان الكاريكاتوري. ولقد قطع سنوات عشرة لم يستطع أن يمسك بخيوط توجهه، بين عزف الفايولين والنقد الموسيقي، والتوزع بين الرسم التجريدي والآخر التشخيصي. كانت سنوات عماده باتجاه النزعة السوريالية، وتخلصه من هيمنة المستقبلية الإيطالية آنذاك، والتعبيرية الألمانية، والتكعيبية الباريسية، إنما تشكلت بصورة ما بعد تأثير القيروان.

المعرض يفي بحق كل هذه المراحل، عبر لوحات لا تتجاوز حجمها الصغير إلا نادراً. مائية على الأغلب، ومشغولة بتقنية اللون والخط والورق. واقتصار عمله الفني على التقنية داخل الحيز الصغير هذا، وبالألوان المائية، شجعت المتذوق على تأمل تفاصيل لوحته بالغة الشفافية والرقة.

هذه التقنيات كانت تسهم في إبراز هويته كمبدع عبر اللوحة التي تعتمد التشخيص. في اللوحة التجريدية الخالصة يبدو لي مزخرفاً. لوحات هذا المعرض العديدة لا تشكل إلا نسبة يسيرة من نتاجه الإجمالي (قرابة 10000 عمل). ولو تجرأت وذكرت أن الاحساس بالتكرار بين اللوحات لم يفارقني، فإن هذا التكرار لا بد سيكون ثقيلاً لو أنني استعرضت أعماله مجتمعة. وهذا التكرار سببه أنه وليد الانشغال بالتقنية بصورة متطرفة، حتى ليصبح الموضوع ثانوياً. الموضوع الذي سيتكرر دون قصد.

لم يعش «بول كليه» طويلاً. أصيب بمرض تيبس الجلد الذي أثر على مظهر وجهه، وحمّله ألماً فوق طاقته، ولكنه ظل في فورة إنتاجه، حتى أنه أنتج 1253 عملاً في سنة 1939 وحدها، التي سبقت وفاته. ولم يترك مسند الرسم وطاولته حتى لحظة موته.

back to top