رعشة في الركبتين

نشر في 04-03-2017
آخر تحديث 04-03-2017 | 00:00
ذات ليلةٍ.. قبل سنواتٍ عديدة...

جلست سُعاد على حافة السرير، تُجفف لي عرقي وتبدل كمادة تلو الأخرى، وقد بلغت حرارتي الأربعين، بدت لي كما لو كانت لا تكبر أو تتغير، فكيف بامرأة تملك كل هذا الجمال والثقة أن تقبل بـي أنا وتتزوجني وتحتمل أن أكسر ظهرها بأوجاعي ومشاكلي التي لا تنتهي؟! كنت أفكرُ معلقاً نظري عليها، أبحث في وجهها عن يقين يعيد إليّ ثقتي، لكن كانت نظراتها مصوبة تجاهي بهدوء قاتل، فلم تلحظ أني أراقبها حتى فوجئت بسؤالي:

- تقدمين لي معروفاً ولكنك تنظرين إليَّ وكأنك لا تعرفينني؟

ابتسمت بثقة:

- تعرفُ أني لن أكذب، لكني فعلاً لا أعرفك.

كنتُ على وشكِ أن أذكِّرها بأني زوجها، أبا طفلها، فكيف تنكر معرفتي هكذا ببساطه؟! لكن لُطفها معي وطاقتي الضعيفة جعلاني أتجنّب الدخول معها بجدال قد يميتُ علاقتنا أكثر بكثير مما هي عليه الآن!

لكن ما حدث بيننا، هذا الجفاء الذي أمات كل شيء في داخلنا، جعلني أحزم أمتعة قلبـي، بكل شروره ومخاوفه وحبه، وأفكر بالرحيل، وترك كل شيء من ورائي.

ولتفعل هي ما تشاء من بعدي.

فالليلة قررت الرحيل، ليس لشيء إلا أني اختنقت من نفسي ومنها، ومن خوفي الذي أضاع مني كُل شيء؛ فقد كنت أموت، أموت فعلياً.

تأتيني رعشات الموت وشرقاته كل ليلة قبل النوم.

عندما أعطس أشعر بأن الهواء سيعود إلى حلقي من جديد فأختنق وأموت.

عندما ينتابني النعاس وأتثاءب من دون أن أغلق فمي، يسكنني الشك بأن أشياء صغيرة تسربت إلى داخلي لتمرضني، فأتمضمض بمطهر الفم حتى تخنقني الرائحة ويبيّض فمي، وأنامُ من تعبـي.

ومع الوقت بدأت أشعر بأني أحملُ قنفذاً يرتعش من الخوف في صدري، وأنبت أشواكه في قلبـي حتى ما عاد قلبـي، فشكوكي أكثر مما أطيق، وأكبر مني والله، ولطالما حاولتُ تجاوزها بطريقة ما، بالصلاة أو بتمارين الثقة، لكن لم يُجدِ ذلك نفعاً؛ من فرطِ ما مررت بمراحل شكٍّ مختلفة في مختلف أطوار حياتي، بات ذاك سلوكاً بداخلي لن يمر بسلام.

ففي ليلة سابقة، قبل خمس سنواتٍ تحديداً، لا أعرف متى، ولا أي شهر! لكن أعرف أنها تسبق تلك الليلة بوقت طويل، كنتُ وحيداً وأعزلاً، عائداً إلى المنزل يسوقني تعبـي، طرقتُ الباب ثلاثاً.

يشجعني يقيني بأن أحداً ما سيفتح لي الباب، سيستقبلني ويمتص بحضنه رائحة الشمس التي تُغلفني، ثم سيجفف عرقي بكوب من العصير المثلج، اعتدتُ على ذلك، لكن يبدو أنني كُنت أحلم؛ حيث إن أحداً لم يأتِ ليفتح الباب لي، وطال انتظاري للنجار الذي سيأتي لإنقاذي، ويضعُ لي قفلاً جديداً للمرة الألف.

أجلسُ بعشوائية أمام الباب الخارجي، الجو بارد للحد الذي لا أطيقه، وقتها انتابني الخوف، وبدأ صدري يعلو ويهبط، وصارت خفقات قلبـي أسرعَ بكثير مما أحتاج، أتساءل: ماذا لو كُنت ميتاً بالداخل؟! ألستُ أنا من وجد أمي وقد فارقت الحياة؟! ألم تكن ساقطة على وجهها لأربع وعشرين ساعة؛ لأني لم أفكر بالتعريج على غرفتها لحظة عودتي متأخراً في المساء؟! لم يكن برودي مقصوداً، فقط خفتُ عندما رأيت نور الممر المفضي إلى غرفتها مغلقاً، فقررتُ أن أفعل ذلك في الصباح قبل الخروج لعملي، وفي الصباح استيقظت متأخراً وخفتُ أن أُطرد من عملي فخرجتُ مسرعاً ونسيتها، كما فعلت اليوم تماماً ونسيت وضع مفتاح المنزل في الصندوق الخشبـي الصغير المعلق بالخارج، فأنا لا أثق بنفسي للحد الذي أحمل فيه مفاتيحي! فماذا لو نسيتها في مكان ما ووجدها أحدهم وقام بسرقتي وقتلي؟!

ماذا لو اعتاد العمال الذين أحضرهم لإنقاذي على صنع نسخهم الخاصة من مفاتيحي؟! أرعبتني الفكرة وقررت خلع الباب في المرة المقبلة وعدم استدعاء أحد لمساعدتي، لكن جاء سليم وأخمد مخاوفي بتسليمه مفاتيح منزلي الجديدة.

دخلت بعجلة أبحث عن مفاتيحي القديمة، لكني لم أجدها، وفجأة تذكرت أني تخليت عن حذري وأضعتها في مكان ما، تمنيتُ أن يكون البحر حتى يبتلعها قرش وأكون بأمان، تلك الفكرة أراحتني كثيراً، بل حتى إنها جعلتني أحب مخاوفي التي زينت دخولي إلى المنزل فلم يكن عاديّاً أو روتينيّاً بل مبهجاً جدّاً؛ لأنه منحني فرصة الهرب والاختلاء بنفسي والاستمتاع بأكل ما أريد من دون أن يُراقبني أحد، وسأغسلُ أطباقي تسعين مرة لأتأكد من نظافتها، وسأقطع الخضار وأنا واثق بأنها لن تكون بقذارة تلك التي يأكلها الناس في الشارع، كما أنني لن أموت متسمماً لأن الطماطم التي وُضعت في السلطة فاسدة، ولا لأن الجُبن تعفن، ولا لأن طاهياً مصاباً بالكبد الوبائي طها لي طعامي، بل سأعيش لأنني أحافظ على كل شيء نظيفاً من حولي.

لكن المقلقُ بالأمر، أني لطالما سألت نفسي... هل أنا أعيش حقًّا؟! وتصدمني الإجابة التي تسري في دمي، بأن حياتي دقيقة حدّ الموت، ولستُ سوى بشري ميت يتجوّل في هذه الحياة، حياة يُحركني فيها خوف لا أفهمه، أشعر به وحسب؛ يسيطر على حياتي، يدفعني إلى الصلاة ليس لأني أحب الله الذي أؤمن بأنه خالقي، بل لأني أخافه، فلا يمكنني تصور جسدي وهو يحترق، ويشتعل حتى يترمد ثم يعاد من جديد ليشتعل.

كانت فكرة أن أكون وقوداً للنار تُرهبني حدّ أن أعيد تكرار صلاتي أكثر من مرة حتى أُصلي صلاة هادئة أتجاوز فيها كل مخاوفي.

كنت، ولا أزال، أعيش خوفاً يمنعني من تناول الطعام في الخارج، ومن المبيت في منزل صديق، ومن استخدام دورات المياه العامة، ومن الحب، ومن الزواج، ومن إنجاب أطفال أكثر خوفاً مني، ومن الثقة بنساءٍ عبثت معهن ومنحنني الحُب، ومن علاقات جسدية تجلبُ لي الأمراض، ومن الشموع التي ستحرقني يوماً، ومن المطر الذي سيُغرق بيتي ويميتني، ومن الأشباح التي تتحرك ساعة المغيب، ومن أنبوبة الغاز التي ستنفجر بوجهي يوماً ما، ومن الطعام الذي لا يشبعني، ومن سخان المياه الذي سيسلخ جلدي يوماً ما، ومن قيادة السيارة ومن سائقي الذي سيقتلني يوماً ما.

فكرة أن {يوماً ما} سيحدث لي شيءٌ سيئ، دمرتني بقدر ما رددتها بيني وبين نفسي، {يوماً ما} خوف محصور بعدة أحرف، قضيت بها على يومي بالأمس، ويومي الذي أعيشه الآن، واليوم الذي سأعيشه غداً أو بعد غدٍ إن لم يحدث لي شيءٌ وأموت.

عشتُ خائفاً من كل شيء هو حياة بالنسبة إلى الآخرين، ورغم ذلك أنا خائف أيضاً من الوحدة التي ستقتلني يوماً ما ولن يعرفُ عني أحد، ولن يبحث عني أو يفتقدني أحد، بل سأموت كشجرة في طريق طويل بين مدينتين.

سأموت فعلاً... إن لم أستطع التخلص من عاداتي القديمة، من خوفي...

ومن الوحدة التي ستقتلني قبل أي شيء آخر أخافه أكثر منها.

ففي أيام كثيرة، تنتابني رعشة خفيفة أحياناً ثم تشتد..

تبدأ بقلبـي، الذي يرتعش بفكرة تلو الأخرى، أحياناً يتفاعل جسدي مع تلك الرعشات وينتفض وكأن تياراً كهربائياً مر فيه. وتضطرب الصور في ذهني، وينتابني الخجل فيما لو أن كل من حولي يسمع نبضات قلبـي، كما أسمعها الآن وكل يومٍ وهي توقظني من النوم كمنبه لا يخطئ.

أذكرُ أنها أيقظتني بالأمس البعيد لصلاة الفجر، لم يكن جسدي نشيطاً للحد الذي يجعلني أنفض الكسل وأستيقظ، تململت في فراشي، فبدأ قلبـي بتهشيم قفصي الصدري، كان على وشكِ أن يخرج، يحرر نفسه من عصياني، أن يميتني لألقى عذابـي الذي أستحقه، أحترق، أترمد.. ولن يكون لله حاجة في صلاتي.

تلك الأفكار التي سكنت عقلي أمدّتني بطاقة غريبة، فقفزت من السرير، غسلتُ وجهي، ثم أسناني، واستخدمت صابوناً معطراً لتطهير يدي قبل الوضوء، وما إن توضأت حتى عادت إليّ شكوكي. أذكر أنني علقت مطولاً وأنا أتوضأ ولم تمتلكني القوة للتأكد من طهارتي، بدا لي أني متسخ للحد الذي لا يُمكنني التطهر منه، وتذكرتُ أمي، رحمها الله، والخادمة (سانتي) واقفة على رأسها تراقبها وتخبرها بأنها أتمت وضوءها، أحياناً تختلفان ولا تصدقها أمي، وأحياناً أخرى يخبرها بياض أطراف أصابعها، وخصلات شعرها المبلل بالماء، وأذناها اللتان بدأتا تغرقان، بأنها أتمت الوضوء كما حدث معي الآن... لأغلق الصنبور وأستعد للصلاة وقد أشرقت الشمس.

فقد كنتُ دائماً ما أصلّي متأخراً وأخرجُ متأخراً ولا أفعل الشيء في وقته المحدد، مستهلكاً طاقتي بالشك والقلق والخوف من أني نسيتُ شيئاً ما!

ففي صباح أحد الأيام عدتُ إلى المنزل خمس مرات، مرة عدتُ فيها لاستخدام دورة المياه، ومرة أخرى لأني لا أثق بالشاي وغلاية الماء في العمل؛ فعدت لصنع الشاي الخاص بـي، وثالثة تنبهتُ فيها لبقعة صغيرة علقت بثوبـي فعدت لتبديله، ورابعة لأني شككت بأني تركتُ غلاية الماء موصولة بالكهرباء وقد تُحرق منزلي، وخامسة لأني شعرتُ بالجوع، فضلاً عن أن الشاي الذي أعددته يحتاج إلى قليل من السكر.

كانت تبدو لي حياتي وكأنها ليست لي!

فيومي مسروق بالكثير من التفاصيل غير المهمة، بالطريق الذي سينقطع بـي، وبرجل غريب المنظر سيهجم عليَّ ويقتلني، وبسائق يحملني كل يومٍ لعملي في سيارة لا أستطيع قيادتها، وبعملاء كثر سيلوثون يومي بعطساتهم وأوراقهم المتسخة، وبحمامة ماتت على النافذة خلف مكتبـي وخنقتني برائحتها، وبمعقم اليدين الذي يجعل يدي تلتصقان، وبالماء الفاتر الذي يخرج من صنبور متسخ عليك إدارته حتى تمتص كل ما علق به من قذارة، وبدرجات كثيرة عليَّ صعودها خوفاً من مصعد قد يعلق بـي، وبابتسامة فاترة أخفيها قبل أن ترتسم على وجهي وأتورط بقبلات ومصافحات لا تنتهي، وبفطور نتشارك فيه لقيمات من ذات الطبق مع العديد من الأصابع بأظفار طويلة وقصيرة جميعها متسخة بطريقة ما، وبأحاديث لا تتوقف، وبالكثير من العمل المشترك الذي يربكني.

back to top