اللاجئون إلى النمسا... معاناة محفوفة بالموت بحثاً عن الحياة

نشر في 31-10-2015
آخر تحديث 31-10-2015 | 00:01
زيارة قصيرة رصدت هموماً كثيرة للهاربين من أهوال الصراعات وآلة الحروب والدمار

أرواح مهاجرة هُمُ، هكذا ببساطة ودون رتوش، لم أرهم إطلاقاً شخوصاً من لحم ودم، بل حقيقة مؤلمة لن تكون رحلة الشفاء منها قصيرة، لأن كل جدليات المفارقة بين الحياة والموت تصبح أمامهم فكرة ساذجة، وهول ما يواجهونه هو أبلغ تعبير عن عمق معنى المقامرة بآخر ورقة، وربما بعدها الطوفان، هي الحرب التي جعلت اللاجئين لطخة قاتمة أخرى في جبين الإنسانية.
 أروى الوقيان كان مساء خميس عابر، ذلك الذي اتصلت عليّ فيه الصديقة عائشة الشربتي لتقترح عليّ أن نقوم بزيارة للاجئين في ألمانيا أو المجر أو النمسا، بحكم أنني قمت بعدة رحلات تطوعية للاجئين من قبل، فوجدتها فكرة ممتازة لكنها تحتاج إلى ترتيب، تلاها بنصف ساعة اتصال الصديق عبدالرحمن اليوسف، وهو مسعف ومتطوع قديم، وقام بعدة رحلات تطوعية من قبل، اتصل ليخبرني عن رغبته في عمل شيء للاجئين!

تلك إشارة واضحة، لقد تلقيت اتصالين في يوم واحد ولنفس السبب، لطالما كان موضوع اللاجئين هاجساً لي، يخفت ولا ينطفئ، دوماً أفكر فيهم، لا أنسى قصص من قابلتهم خلال سنوات زيارتي لهم، لاسيما في لبنان والأردن، ولكن لم يسبق لي أن زرت أولئك الذين تكدسوا في أوروبا مؤخراً!

شكلنا فريقاً يضم من ذكرتهم سابقاً، وانضم إلينا المحامي محمود القطان، والمصور خليل العوضي، وكلاهما لم تكن لي معه سابق معرفة، ولكن الأخير قام بتصوير الكثير من الرحلات التطوعية لكثير من الدول الفقيرة والمنكوبة.

قررنا بعد اجتماعاتنا أن نسمي فريقنا "# مع _ اللاجئين"، والهدف من هذه الزيارة استكشاف الوضع هناك، والتطوع بالوقت والجهد وتقديم التبرعات التي جمعناها من الأهل والأصدقاء، ولأنها الرحلة الأولى في بلد لا نعرف أوضاع اللاجئين فيه فلم نفتح باب التطوع على مصراعيه، وقررنا أن تكون النمسا هي الوجهة، بعد أن اكتشفنا أنها مؤخراً أصبحت مقصداً للاجئين المطرودين من المجر والقادمين من صربيا واليونان والمتجهين إلى ألمانيا كلهم سيكونون في النمسا في مرحلة ما، أو قد يستقرون بها.

المحطة... حضن اللاجئين

قررنا السفر في 29 سبتمبر مدة أسبوع تقريباً، وكنا نعلم أننا سنمكث أغلب الوقت في محطة القطار الأساسية هناك (HAUPTBAHNOF)، وبالفعل في مساء وصولنا رغم تعب السفر فإننا قررنا أن نزور المحطة ونرى ماذا تقدم.

خصصت المحطة قسم 12 بها للاجئين، بشكل دائم، مبنى كبير بحجم طابق يفترشه اللاجئون ينامون فيه، دون أي خصوصية، تجد الأجساد متلاصقة كل أسرة تلتحم بالأخرى، وتفصلها "شنط" عن الأسر الأخرى، في ذلك المساء كانت تبلغ درجة الحرارة 10 درجات، وكان سبتمبر يودعنا، لك أن تتخيل خلال شهر كيف سيكون الشتاء هناك؟

محطة القطار حضن اللاجئين

هذا ما سينتابك حين تراها، زرناها اليوم الثاني في وقت أبكر، بدت المحطة خلية نحل، فالمتطوعون منتشرون في كل مكان، أحدهم ينظف والآخر يستقبل تبرعك المادي، وفئة أخرى تطبخ لهم، بالإضافة إلى أنهم خصصوا مبنى كمستوصف صغير به أطباء متطوعون لخدمة اللاجئين على مدار اليوم، وممرضون ومسعفون كلهم متطوعون، وقد يمتد تطوعهم إلى ساعات الفجر الأولى.

كنت أرى بشكل يومي بوفيهاً رائحته لذيذة، يطبخ الأرز بالخضار مع مرق العدس والسلطة، فضلاً عن أصناف أخرى تشعرك أنك تأكل طعام طبخ بيتي، كان يقوم بطبخه يومياً متطوعون من الطائفة السيخية، ويتكلفون بطبخ ثلاث وجبات للاجئين، حيث كانوا يطبخون 150 كيلوغراما من الأرز يومياً، سخروا حياتهم ومالهم وجهدهم لإطعام هذا اللاجئ دون أن يميزوا بين دين أو مذهب أو لون أو جنس، قدموا الطعام إلى محتاج دون الاكتراث لمن يكون، تجلت لي الإنسانية بأبهى حلة.

ماذا لو تبدل الحال؟ هل كنت ستقدم المساعدة لسيخي دون أن تتردد؟ هنا تكمن المسألة في العنصرية التي يواجهها البعض حتى في فعل الخير، واقتصاره على الأقربين، لأنهم الأولى بالمعروف، وهو أمر صحيح ونشجع عليه، ولكن ماذا بعد تقديم المعروف للأقربين، ألا يستحق المحتاجون المطرودون من أوطانهم مساعدة فورية دون تمييز؟

التطوع أسلوب حياة

 تقدمنا للمكتب المخصص للمتطوعين، رحبوا بنا على الفور واستفسروا عن اللغات التي نجيدها، وبعدها أعطونا الإذن بأن نقوم بالتطوع كيفما نشاء بإجراء لم يتعد العشر دقائق، لا أعرف لماذا تذكرت يومها أول مرة أردت التطوع بالكويت.

كنت حينئذ طالبة جامعية واقترحت عليّ صديقتي مي الصالح أن نقضي جزءاً من وقتنا في التطوع في مستشفى مكي جمعة لمرضى السرطان، وأذكر حينئذ أننا على مدى أسبوع كنا نزور المستشفى الذي أرسلنا إلى وزارة الصحة التي لم تقتنع بطلبنا، وبعد واسطة قرروا أخيراً قبولنا، واستغرق الأمر أسبوعاً آخر للقيام بمراسلات وكتب ووضع طابع فقط، لأننا رغبنا في التطوع ليس إلا!

باب التطوع في الكويت صعب وصعب جداً، ويقتصر على أماكن محددة، وقد يتطلب واسطة فقط لتقوم بالتطوع، وهنا في أوروبا التطوع هو أسلوب حياة.

تجد الطالب ينهي يومه الدراسي يزور محطة القطار يقضي ساعات من التطوع هناك، ويمارس حياته بشكل عادي ومريح، لذا تجدهم دوماً في حالة نفسية سعيدة ومبتسمين لا شتائم في الطريق، ولا قصص قتل في مجمعات، لأن التطوع يعلمك كيف تصبح إنساناً أفضل، ويعلمك الكثير عن نفسك.

وتذكرت اقتراحي الذي قدمته مراراً وتكراراً إلى جمعية الهلال الأحمر الكويتي، وفي كثير من مقالاتي، أن تخصص وزارة التربية رحلة تطوعية سنوية لطلبة المرحلة الثانوية ليقدموا خدمات تطوعية للفقراء والمنكوبين، ومازال الاقتراح في طي الترحيب لكن دون تنفيذ، لسبب بسيط هو أننا في بلد بيروقراطي حتى في التطوع.

كل فكرة هنا تبدو مثار خشية وخوف، وكل شيء يجب أن يقدم بكتاب رسمي ويطرح على لجنة، هذا عدا سلسلة الأحداث والاقتراحات التي قد تمتد سنوات قبل أن يصبح تنفيذها في خبر كان.

تطوع متعدد الجنسيات

الجميل أن المتطوعين كانوا من مختلف الجنسيات، حتى أن بعض اللاجئين قرر التطوع لمساعدة اللاجئين حديثي الوصول، هنا تجد مشاركة في التطوع من جميع الأعمار والجنسيات، ويبدو على محياهم السعادة والابتسام، ويحاولون تقديم الخدمات التي يقدرون عليها.

وببساطة سيلفت نظرك أحدهم الذي خصص كشكه لقلي البطاطس في هذا الجو البارد،... لا يوجد أجمل من بطاطس مقلية في جو بارد للاجئ، لربما لم يتناول الطعام منذ أيام، نعم كانوا يراعون هذه التفاصيل الصغيرة.

علاوة على ذلك، تم تخصيص حمامات للاستحمام وخيم إلى جانب ملابس متبرع بها، وكنت ألحظ كل يوم سيارة تقف لتقديم  التبرعات العينية قبل أن تغيب عن الأنظار.

كما تم توفير مكان يستحم به اللاجئون وينامون ويتناولون الطعام و يراجعون الأطباء، إن تطلب الأمر ذلك، ويمكن القول إن تلك المحطة كانت أشبه بملاذ حقيقي للاجئ.

هناك، كنت أتلمس معاني الإنسانية يومياً، ففي كل يوم جديد على هذا الصعيد،... هذه الشقراء الجميلة قدمت من الدنمارك لتكنس وتنظف بعد رحيل اللاجئين القدامى ليجد اللاجئون الجدد مكاناً نظيفاً ينامون فيه، لم تتذمر وأقرانها قط من الروائح الكريهة، بل كانوا يعملون جميعاً بصمت جميل.

في أحد الأيام تبادلت أطراف الحديث مع الطبيب المناوب، قال لي إنه يتطوع يومياً من الثامنة مساء حتى الفجر، سألته عن مشاكل اللاجئين الصحية، فأجابني أن أغلب مشاكلهم تورم الأرجل لأنهم مشوا ساعات طويلة، ولربما لم يخلعوا الأحذية أياماً فخذلتهم أرجلهم بعد هذا العناء، فضلاً عن مشاكل الزكام والإسهال نظراً إلى نومهم في العراء.

كنت قد تذكرت طبيبة في الكويت روت لي مرة أنها طردت مريضاً لأن رائحته كريهة وطلبت منه أن يستحم قبل أن يأتي ليراجعها.

ثم باغَتُّه بسؤال: ألم ينتابك يوماً شعور بالاشمئزاز من اللاجئين؟ قال لي سؤال ممتاز! لأني أعلم أن هناك من يرفض معالجتهم لذلك السبب، لكنني على العكس تماماً أجد في هذا العمل مكافأة كبيرة لروحي، تلك هي الإنسانية الحقة التي لا تجزع أو تقرف من الإنسان وهو في موقف ضعف.

حديث مع لاجئات عراقيات

تلك المرأة السمراء، سحنتها مليئة بضياع لن تخطئه في قراءة وجهها ، انتصار، امرأة مخذولة خائفة ضائعة وغاضبة، كنت أتحدث مع لاجئة عراقية في أحد مراكز الإيواء في النمسا، وإذ بها تقطع حواري لتقول: من قال لك إن البصرة آمنة؟ البصرة أصبحت مرتعاً للخوف والاغتصاب والترهيب، هل تعلمين أن ابني هجر المدرسة لأنه شاهد أشلاء جثة بشرية في الحمام؟ وبات بعدها يبحث عني في كل مكان وأصيب بفزع حتى يومنا هذا.

هل تعلمين أنني في رحلة الهروب عشت أهوال ومخاطر الغرق وكان  الموت أمامي؟، إلا أن حلاوة الروح جعلتني أتمسك بالحياة، فسبحت وسبحت، وأنقذت زوجي وصغيري، هل تعلمين كم من مسافات قطعت كي أصل إلى هنا اليوم؟ أنا خائفة وأشعر بفزع، أخاف أن يعيدوننا إلى العراق، لا أريد أن أذهب إلى هناك، أرجوك...

وهنا دخلت انتصار في نوبة بكاء، أمسكت يدها، وقلتُ: أنت الآن في النمسا، إحدى أكثر الدول أماناً، إطمئني لن تعودي إلى الوطن!

من يصدق أنني ابنة الكويت في أرض النمسا أطمئن سيدة عراقية بأنها لن تعود إلى وطنها، الموضوع بحد ذاته مفارقة، شعرت بأنها تحتاج إلى حضن غريب، حضنتُها... شكرتني لأنني سمعتها.

قبلها كنت أحادث أشواق، وهي لاجئة عراقية، تقول إنها هي أيضاً تعرضت لمخاطر الغرق أثناء رحلة هروبها من خلال قارب مطاطي في اليونان، ضمت ابنها الأصغر، وكان تقول له طوال الوقت كم تحبه، لطالما كان الأصغر المفضل لدى الأمهات على ما يبدو، وقد نطقت بالشهادتين استعداداً للموت... كان القارب يغرق، رحمة الله كانت واسعة وشاهدت مروحية تحلق فوقهم قبل أن تنقذهم.

تصف أشواق خشيتها الدائمة من فقدان زوجها أو أحد أبنائها أثناء ذهاب الأول للعمل والثاني للمدرسة، كان القلق يؤذيها كل يوم، ولأي سبب؟ هي الكراهية الطائفية المقيتة حيث بات أبناء الشعب الواحد يتقاتلون فقط على انتمائهم المذهبي، الاضطهاد بين الطوائف والأديان بلغ حداً أنها تعرضت للتهديد، غادرت وطنها مرغمة من الأهوال هناك.

أشواق مشت سبع ساعات لتصل إلى النمسا،... انتصار مازالت في حالة صدمة، العالم يبدو قاسياً في هذه اللحظة، كنت في فراش لاجئة كانت تشتكي لي أنه لا يوجد حمام للنساء وترغب بالاستحمام بشدة.

سمعتهم بحب جمّ، تمنيت لو أن الاستماع يمكن أن يحل جزءاً ولو يسيراً من مشاكل هؤلاء، توسدت خيباتي بالعالم العربي، كرهت العنف و الاستبداد أكثر، ضممت أشواق وقبلت خدها لأشعرها فقط بأنها ليست مقرفة كما تظن،... بكت انتصار على كتفي.

تمنيت لو أمتلك ما هو أكثر من حضن وأذن لسماعهم، لكن  ليس لدي إلا قلمي أنقل لكم عبره مشاهداتي في اليوم الثالث في النمسا أثناء رحلتي التطوعية فيها.

back to top