(الأخيرة) : «السادات»... مسيرة قائد مازالت تثير عواصف الجدل

نشر في 16-02-2016
آخر تحديث 16-02-2016 | 00:01
من كان يتخيل أن يركع «بطل العبور» قرب الرجل الذي حاصر الجيش المصري الثالث؟
عالم‭ ‬رجالات‭ ‬السياسة‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬زاخراً‭ ‬بالأحداث‭ ‬وحافلاً‭ ‬بالمغامرات،‭ ‬لكن‭ ‬سيرة‭ ‬محمد‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬ليست‭ ‬كغيرها‭ ‬من‭ ‬سير‭ ‬القادة،‭ ‬لما‭ ‬يتفرد‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬القيادية،‭ ‬ولما‭ ‬تحويه‭ ‬سيرته‭ ‬من‭ ‬جدل‭ ‬كبير‭ ‬حول‭ ‬شخصية‭ ‬قائد‭ ‬قلما‭ ‬يتكرر‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭.‬

ويسرد‭ ‬كتاب "السادات"،‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬32‭ ‬فصلاً،‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬السادات‭ ‬منذ‭ ‬ولادته‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬ديسمبر‭ ‬1918‭ ‬بقرية‭ ‬ميت‭ ‬أبوالكوم‭ ‬بمحافظة‭ ‬المنوفية‭.‬

ويتضمن ‬الكتاب‭ ‬معلومات‭ ‬قيمة‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬الوضع‭ ‬الحالي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والمنطقة‭ ‬عموماً،‭ ‬لاسيما‭ ‬علاقة‭ ‬السادات‭ ‬بحركة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين،‭ ‬ودخولها‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬السياسية،‭ ‬ومدى‭ ‬اختلاف‭ ‬توجهاته‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬وغيره،‭ ‬عن‭ ‬سلفه‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭.‬

يذكر أن هذا الكتاب المثير للاهتمام متوافر في جميع المكتبات، وهو للصحافي في جريدة "لوموند" الفرنسية روبير سوليه، المولود في مصر عام 1964، والذي يتميز ‬بأنه‭ ‬يورد‭ ‬جميع‭ ‬الروايات،‭ ‬ولو‭ ‬متضاربة،‭ ‬لتعلقها‭ ‬بالأحداث‭ ‬التي‭ ‬غيرت‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر، وتاريخ الأمة العربية، بشيء من التفرد، ونقله من الفرنسية إلى العربية أدونيس سالم، وصدر عن دار "هاشيت نوفل"، بيروت 2015.

وتشجيعاً‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الحافل‭ ‬بالتشويق‭ ‬والإثارة‭ ‬تسلط‭ ‬‮ "الجريدة‮،‭ ‬عبر‭ ‬ثلاث‭ ‬حلقات،‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬المحطات‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ .‬

في محاولة للخروج من الطريق المسدود، قرر جيمي كارتر أن يراهن بكل شيء، فاقترح إجراء لقاء ثلاثي يضم الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل يكون هو منظمه والحكم فيه، وتقرر عقد تلك القمة غير المسبوقة التي لم يستطع السادات ولا بيغين التملص منها، في المقر الرئاسي الأميركي في كامب ديفيد بواشنطن، وحدد موعد انطلاق اللقاءات في 4 سبتمبر 1978.

قدمت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية دراسات نفسية وسلوكية تتعلق بمحاوري الرئيس، وقد أكد واضعو تلك الدراسات أن السادات «يعتبر نفسه مخططا استراتيجيا كبيراً، وهو مستعد لتقديم تنازلات تكتيكية، إذا اقتنع ببلوغ أهدافه العامة»، ولاحظوا أنه يعير الرأي العام العالمي أهمية كبرى، واكتشفوا لديه «عقدة جائزة نوبل»، وأضافوا: «تسمح له ثقته بنفسه بالقيام بمبادرات جريئة، متجاوزاً اعتراضات مستشاريه».

فمنذ وصوله في 5 سبتمبر 1978 أسرّ إلى الرئيس الأميركي أنه لم يأت للتفاوض، بل لتوقيع السلام، وأن «في جيبه» خطة شاملة، وأنه مستعد لتقديم التنازلات، كانت تلك مفاجأة سارة لجيمي كارتر الذي بدا له أن من المستحيل التقريب بين الموقفين المصري والإسرائيلي، وعرض السادات على كارتر أن يلعبا اثنين مقابل واحد، لكن الرئيس الأميركي أعطى لنفسه دور الحكم، وعليه الالتزام به.

انضم الى الوفد الرسمي حسن التهامي، الرجل الذي التقى موشي دايان سراً في المغرب، والذي يلقبه بطرس غالي بـ»منجم السادات»، لقد كان ذلك الضابط القديم مقتنعا أنه مكلف بمهمة ربانية، وفي 17 سبتمبر توصلوا أخيراً إلى النص النهائي بعد ثلاثة عشر يوماً من النقاشات المكثفة، وثلاث وعشرين صياغة متتالية، وتضمن النص اتفاقيتي إطار تلحظ الأولى انسحاب الإسرائيليين التدريجي من كل سيناء، والتوصل الى معاهدة سلام بين البلدين، في حين تنص الثانية على إنشاء «حكم ذاتي إداري» في غزة والضفة الغربية في مهلة خمس سنوات، أما نقاط الاختلاف (خصوصا بشأن القدس)، فاستثنيت من تلك النصوص، على أن يتم تبادل الرسائل بشأنها.

القذافي

منذ موت عبدالناصر كانت العلاقات بين مصر وليبيا تمر بكثير من التقلبات، وكانت العناقات الصادقة منها أو المنافقة دائما ما تغيب لتحل محلها الشتائم والتهديدات، ففي أبريل 1975 نعت السادات القذافي علنا بـ»المريض العقلي»، ولاحقا نسب إليه المسؤولية عن المؤامرة التي كادت تطيح بالمشير جعفر النميري في السودان في يوليو 1976، وعن خطف طائرة بوينغ بين القاهرة والأقصر في أغسطس من العام نفسه.

وبعد عام أبلغت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية السادات بقنوات غير مباشرة أن القذافي يخطط لمؤامرة ضده، وأن فرقة كوماندوس تتدرب لهذه الغاية في واحة تبعد 35 كيلومترا من الحدود بين البلدين، واستطاعت عملية مراقبة جوية للمصريين التحقق من ذلك، ومن 21 إلى 25 يوليو 1977 تعرضت مواقع عسكرية ليبية للقصف، كان ذلك تحذيراً لم يثر استياء عواصم عربية أخرى تقلقها أصلا غرابة أطوار «مجنون طرابلس الغرب» وصلاته بالاتحاد السوفياتي التي أصبحت وثيقة أكثر فأكثر.

نصف «نوبل»

في 27 أكتوبر منحت جائزة نوبل للسلام عن عام 1978 للسادات وبيغين معاً تقديراً لهما على موقفهما «الجريء»، ولتشجيعهما على التوصل إلى سلام دائم، لكن السادات لم تكن لديه أي رغبة في الظهور مجدداً الى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي، فأرسل سيد مرعي، رئيس مجلس الشعب وحما إحدى بناته لتمثيله في أوسلو في 10 ديسمبر 1978، ثم قدم قيمة الجائزة البالغة 700 ألف دولار إلى قريته ميت أبوالكوم، التي استفادت من تحسينات كثيرة منذ بدأت تستقبل شخصيات من العالم كله.

وفي مارس 1979 وعلى منصة أقيمت في الهواء الطلق أمام المدخل الشمالي للبيت الأبيض، وفي حفل حضره نحو ألف وخمسمئة مدعو، وتابعه مباشرة ملاييين المشاهدين عبر الشاشات، وبعد الإصغاء إلى الأناشيد الوطنية للبلدان الثلاثة على التوالي، وقع السادات وبيغين وكارتر الوثائق التي قدمت إليهم، ثم وقفوا وتصافحوا فترة طويلة وسط التصفيق، حيث قال السادات: «كانت تلك أسعد لحظة في حياتي»، لكن ذلك لم يبد واضحا على وجهه في تلك اللحظة التاريخية، وتجب الإشارة إلى أن أصوات ألفي متظاهر مؤيد للقضية الفلسطينية كانت تهدر خلف سياج البيت الأبيض، ويتردد صداها في الداخل، في تلك اللحظات، بعدها وافق النواب المصريون على المعاهدة، وفي مايو من العام نفسه احتفل مع حكومته باستعادة المرحلة الأولى من سيناء، وفي سبتمبر زار للمرة الثالثة إسرائيل على متن يخت برفقة زوجته وأولاده.

وفي عام 1980 بدأ بقمة إسرائيلية - مصرية، فاستقبل السادات في أسوان مناحيم بيغين من 7 إلى 10 يناير، وبحثا مسألة تبادل السفراء وسلسلة من التدابير الهادفة إلى تسهيل الاتصالات بين البلدين، إذ لم يكن بعد توقيع معاهدة السلام بوسع السادات التملص من إقامة العلاقات الدبلوماسية، فبدا له أن وجود سفارة إسرائيلية في القاهرة شر لابد منه، ولكن هل كان السادات يحاول تحويل الانتباه عن نجمة داود التي لاتزال تسبب صدمة كبيرة لمعظم مواطنيه؟

راكعاً قرب شارون

لعل القسم الأول من اتفاقية كامب ديفيد والمتعلق بالسلام بين مصر وإسرائيل بدأ يسلك طريقه تدريجياً، لكن حال القسم الثاني لم تكن كذلك، أي مستقبل الفلسطينيين، كما أن الأردن رفض أي صلة له بتلك الاتفاقية مادامت الدولة اليهودية ترفض التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية.

 وما زاد في غيظ السادات تحديداً هو أن الإسرائيليين واصلوا سياسة الاستيطان في الأراضي المحلتة عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، وتعنتوا في سعيهم إلى جعل القدس عاصمة لهم، وأثار سخطه الشديد الإعلان عن نقل عدة إدارات حكومية، ومن بينها مقر رئاسة الوزراء، إلى القسم الشرقي من القدس.

وفي يناير 1981 تلقى أرييل شارون وزير الزراعة الإسرائيلي رسالة من نظيره المصري محمود داود، ذكر له فيها أنه يريد أن يختبر بصورة عاجلة نموذجا جديداً للري في مصر، بهدف غرس كرمة (عنب)... في 10 أيام «في مكان مهم جداً»، وما لبث شارون أن فهم أن ذلك المكان هو مسقط رأس أنور السادات.

وفي مايو استُقبل شارون في ميت أبوالكوم، وقال السادات للفنيين المصريين الحاضرين: «لدينا أراض، ولدينا ماء، والآن لدينا أريك (أرييل)»، ثم طلب أن يحضروا له خريطة لمصر، وبسطها أرضاً، ثم قال لشارون الذي ركع قربه: «هذه هي المناطق الصحراوية التي نود إقامة زراعة حديثة فيها».

من كان يتخيل قبل سنوات قليلة مشهدا كهذا؟ «رئيس أكبر دولة عربية بالقرب من أحد أكثر الرجال الذين يخشاهم العالم العربي أو يكرههم، كان «بطل العبور» راكعا بالقرب من الرجل الذي حاصر الجيش المصري الثالث، وكاد يحول نصف الانتصار في أكتوبر 1973 إلى هزيمة ساحقة.

الإهانة  تلو الأخرى

وفي يونيو 1981 التقى السادات مع بيغين في شرم الشيخ، لكن تدمير الطائرات الحربية الإسرائيلية مفاعل تموز النووي العراقي بعد ثلاثة أيام من اللقاء خطف الأضواء، وشكلت تلك الضربة إحراجاً شديداً للرئيس المصري، فهو مضطر لإدانة تدمير المفاعل العراقي، لكن تلك الإهانة لم تكن الأخيرة التي يتلقاها «بطل الحرب والسلام»، ففي 17 يوليو التالي، اليوم الذي جرى خلاله في لندن توقيع اتقاقية نشر القوة الدولية في سيناء، قام الطيران الإسرائيلي بقصف بيروت.

بعدها بات السادات رجلا متوتر الأعصاب وسريع الانفعال، ويمر بتقلبات مزاجية كثيرة، فتارة يستشيط غضبا ضد كل من ينتقدونه في مصر وخارجها، وطورا يظهر مصابا بالكآبة، وتبدو عليه علامات الانهيار العصبي.

وفي حملة لا سابق لها، اعتقلت الشرطة 1536 شخصاً، معظمهم من مناضلي الجمعيات الإسلامية، يضاف إليهم دعاة أصوليون مثل الشيخ كشك، وكان بين المعتقلين أيضا 150 قبطيا، إضافة إلى شخصيات غير إسلامية من الصف الأول: فؤاد سراج الدين، الذي أعاد بعث حزب الوفد، وحلمي مراد نائب رئيس حزب العمل، ومحمد حسنين هيكل أشهر الصحافيين العرب، ونقيب المحامين السابق عبدالعزيز شوربجي، وعالمة الاجتماع نوال السعداوي، وغيرهم كثير.

 ولم ينته الأمر هنا، ففي 5 سبتمبر عُزل البابا شنودة وأُبعد إلى دير في الصحراء، في حين أُعفي نحو عشرين أسقفاً وكاهناً من مناصبهم، ومن جهة أخرى أُعلن عن إلحاق كل مساجد مصر بوزارة الأوقاف التي باتت مسؤولة عن كل أنواع الدعوات الدينية، كما أعلن حظر خمس مطبوعات دينية، وجريدة الشعب المعارضة، وإحالة 74 أستاذا جامعياً و67 صحافيا إلى وظائف إدارية.

«لقد قتلت الفرعون»!

قرر خالد الإسلامبولي الملازم في سلاح المدفعية وذو الأربعة والعشرين عاما، ويتنمي إلى تنظيم الجهاد أن يثأر لشقيقه محمد، قائد الجماعة الإسلامية في كلية التجارة بأسيوط، وأحد الذين اعتقلتهم السلطات المصرية في 2 سبتمبر 1981، حيث اختار العرض العسكري الذي سيشارك فيه السادات بذكرى أكتوبر 1973.

في ذلك اليوم خلع السادات قبعته، ووضعها على حافة حاجز المنصة أمامه مبتسما ابتسامة عريضة، وفي تلك اللحظة توقفت شاحنة أمام المنصة، إذ صوب حسين عباس القناص بندقيته نحو الرئيس فأصابه في عنقه، في حين قفز الملازم خالد الإسلامبولي من العربة ورمى نحو المنصة قنبلتين يدويتين لم تنفجرا، وآنذاك اندفع يحميه دخان كثيف، ويتبعه زملاؤه نحو هدفه، ثم شهر رشاشا في اتجاه «الخائن»، قبل أن يصيح «لقد قتلت فرعون!» ويروى أنه صرخ بوزير الدفاع، الجالس إلى يسار الرئيس المصري: «ابتعد، هذا الكلب هو من أريده»!

بعدها تقرر عدم دفن أنور السادات في جبل سيناء، كما تمنى، ولأسباب عملية، من ذا الذي سيذهب لزيارته في ذلك المكان النائي؟، قررت السلطات بالاتفاق مع زوجته بناء مدفن له في ضريح الجندي المجهول الخاص بشهداء حرب 1973، على مسافة مئات الأمتار من مكان اغتياله.

سلام جليدي

وبعد أسبوع على وقوع المأساة، وفي 13 أكتوبر 1981، فاز حسني مبارك برئاسة الجمهورية رسميا، بعد استفتاء شعبي نال فيه (98.46 في المئة) من الأصوات، أتت تلك الخلافة تحت عنوان الاستمرارية، ولو أن الرئيس المصري الجديد يتميز عن سلفه بأسلوب أكثر ميلا إلى الكتمان ورغبة في مد اليد إلى المعارضة غير الراديكالية.

وفي 25 نوفمبر أمر بإطلاق سراح إحدى وثلاثين شخصية من «العلمانيين» كان السادات قد أمر بحبسهم قبل ثلاثة أشهر، وبعد ذلك اقتيدوا إلى منزله للقائه في حضور التلفزيون، حيث أكد مبارك أن «حقبة اعتقال قادة المعارضة وإبعادهم من الحياة السياسية قد ولت»، وأضاف «انسوا تلك المرحلة المؤسفة، لأن علينا أن نتوحد لمواجهة خطر التعصب الديني».

وفي 25 أبريل 1982 استعادت مصر، كما كان مقررا، السيطرة على كل أرض سيناء بغياب السادات عن هذا الموعد الذي طال انتظاره له، ورفض قاتلوه وشركاؤهم خلال محاكمتهم أن يتولى محامون الدفاع عنهم، وبعد عدة جلسات أصدرت المحكمة أحكامها، فأعدم الملازم الإسلامبولي والضابط الاحتياطي عباس رميا بالرصاص، وشنق ثلاثة أفراد آخرون من المجموعة، أما الرائد في سلاح الطيران عبود الزمر الذي دين بمساعدتهم فحكم عليه بالحبس المؤبد.

لا «محو لآثار الساداتية»

لم يكن حسني مبارك بحاجة إلى إسقاط تمثال سلفه، بل تركه يتداعى ويغمره النسيان، وأتت سيدة أولى لتحجب أخرى، إذ استفادت سوزان مبارك من الطريق الذي شقته جيهان السادات لتحتل مقدمة المشهد وتلعب شيئا فشيئا دور شبه وزيرة للثقافة والشؤون الاجتماعية، وهي منهمكة في الوقت عينه بالإعداد لتسلم ابنها الأصغر جمال مقاليد الرئاسة عندما يحين الوقت لذلك.

وفي النهج الاقتصادي، سار مبارك في إثر السادات ولم يتبعد عنه، بل زاد من حدة الانعطافة الليبرالية اعتبارا من عام 1991 برعاية صندوق النقد الدولي، وانتقلت مصر من اقتصاد الدولة والمركزية إلى اقتصاد سوق، فخصخصت مؤسسات كثيرة وأعادت العمل بالبورصة.

مهد التطرف الإسلامي

ارتكب السادات خطأ يصعب على المدافعين عن قيام الدولة غير الدينية مسامحته عليه، ففي عهده أدخلت مبادئ الشريعة الإسلامية على الدستور المصري، إلا أن شيئا لم يرغمه في عام 1971 على اتخاذ ذلك القرار الكارثي، الذي اكتشف في ما بعد كم كانت العودة عنه صعبة.

لكن خطأ السادات الأكبر كان اللعب بالنار، فباعتماده على الإسلاميين لمحاربة اليسار والناصريين، لم يخطئ فقط في تحديد الخصم، بل أطلق عملية ضارة كلفته حياته في النهاية.

ومن غير المنصف تحميل السادات وحده مسؤولية نمو التطرف الإسلامي، الذي لم تكن مصر وحدها مسرحاً له، بل مجمل العالم العربي وما يتخطاه كذلك، بيد أن سياسة «الرئيس المؤمن» ساهمت في ذلك النمو، خصوصا أن الناحية الاقتصادية لتلك السياسة كانت تمهد السبيل أمام الأصولية أيضا.

وحال مبارك دون ظهور أي قوة معارضة ديمقراطية يمكنها أن تزعجه، واضعا المصريين أمام خيار بسيط جدا: أنا أو الإسلاميين، والنتيجة أن هؤلاء الإسلاميين، وقد أصبحوا القوة المنظمة الوحيدة، تمكنوا عند الإطاحة به في فبراير 2011، من الاستيلاء من دون أي مشقة على الثورة التي لم يكونوا هم من المحرضين عليها، بل انضموا إليها بعدما انطلقت مسيرتها وتأكدوا من نجاحها. وببراعة وتصميم وكثير من المال استطاع الإخوان المسلمون الذين يملكون وسائل ضخمة، الفوز بنتائج الاستفتاء الشعبي وبنتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية.

وفي 6 أكتوبر 2012 أثار رئيس الجمهورية (الإسلامي) محمد مرسي مفاجأة بتقليده «بطل العبور» أرفع وسام مصري، وهو وشاح النيل، وقالت جيهان السادات للتلفزيون الرسمي: «طوال ثلاثين عاما لم نر أمرا شبيها بهذا قط»، وما زاد في إبراز تلك الخطوة أن مرسي لم يكرم عبدالناصر في الاحتفالات بالذكرى الستين لانقلاب 23 يوليو 1952، بل اكتفى بانتقاد مبطن لسياسته في خطاب متلفز.

العظمة والصغائر

هل يجب أن نرى في السادات رجل دولة عظيماً، وصاحب شجاعة ورؤية، سمح لمصر بتحقيق السلام مع إسرائيل، واسترجاع سيناء؟ أم سياسيا ماكراً قاد بلده إلى طريق مسدود وفتح الباب أمام التطرف الإسلامي؟ إن تناقضات تلك الشخصية أكبر بكثير من أن تسمح بتقديم إجابة حاسمة.

 وفي إشارة للصحافي كريستوف إياد عن «هذا المزيج من العظمة والسخافة»، خاطب  السادات بهذه الكلمات القاسية: «كان فيك دائما شيء من الخداع والغموض وعدم السوية، منعنا من الإعجاب بك بلا حدود. أردت أن تكون كل شيء في آن واحد: بطلا للحرب والسلام، مسلماً متشدداً وساعيا متنورا إلى الحداثة، ابن فلاح وضابطا وصولياً. زعمت أن حكمك كان باسم العلم والإيمان، وكان بوسعك الجمع بين الأضداد».

رئاسة ذات طابع إمبراطوري

قرر السادات عام 1980 أن يهدي سيارة لكل بنت من بناته الست ولابنه وكنّته، فطلب ثماني سيارات فولكسفاغن من ألمانيا، مختاراً اللون الذي بدا له الأنسب لكل منهم، كما أن بساطة العيش لم تمنعه أن يحب البذخ والاستمتاع بكل التسهيلات التي تمنحه إياها وظيفته، من دون أن يميز بين الملكية العامة والملكية الخاصة، فكانت رئاسته ذات طابع إمبراطوري، إذ راح يتماهى مع مصر ولا يفرق بينها وبين شخصه حين يتكلم، وزادت حرب أكتوبر في إبراز هذا التماهي، فالسادات هو مصر، ويؤكد منتقده أنه انتشى في نهاية السبعينيات بشهرته العالمية، وأنه حمل عصا الماريشالية كما يحمل الفرعون مفتاح الحياة.

وفي عام 1976 سمح للإخوان بإعادة إصدار مجلتهم الشهرية «الدعوة» التي كانت مدعومة من ممالك الخليج، فتدافع جهارا عن الأفكار الإسلامية، وقد طالب عمر التلمساني، المرشد الأعلى لتنظيم الإخوان المسلمين، ومنذ العدد الأول للمجلة، بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية في المجتمع المصري تطبيقاً فعلياً، لأن المادة الثانية من الدستور لم تؤد قط، وحتى ذلك التاريخ، إلى تعديل القوانين، إذ وجد هؤلاء «الإخوان المسلمون الجدد» سنداً كبيراً في شخص المقاول الواسع الثراء عثمان أحمد عثمان، أحد أبرز المقربين من السادات.

وانتشرت الأفكار والتصرفات الأصولية في المدن والقرى والمصانع والإدارات العامة، وشهدت ظهور جمعيات دينية ذات قدرات مالية كبيرة سدت نقص الدولة في مجالات شتى واكتسبت أنصارا كثيرين، فكان لمحمد متولي الشعراوي الذي اتخذ لنفسه موقعاً مختلفاً تأثير أكبر من تأثير عبدالحميد كشك، فعينه السادات وزيرا للأوقاف في نوفمبر 1976، واستمر في منصبه حتى ديسمبر 1978، في تلك الفترة نجح الشعراوي في إنشاء أول بنك إسلامي في مصر، وهو بنك فيصل.

back to top