تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطعاً من حديث تلفزيوني لشخص ألماني يستنكر فيه قيام أمير دولة قطر بتكريم قائد منتخب الأرجنتين «ليونيل ميسي» بإلباسه البشت العربي عقب الفوز بكأس العالم، مما اعتبره «فرضاً لثقافة معينة على حدث عالمي في لحظة استثنائية ستبقى خالدة في صفحات التاريخ»، حيث لم يسبق برأيه أن «أُجبر أي فائز بالكأس في الدول الغربية التي استضافت المونديال على لبس سترة جلدية أو بنطال جينز مثلاً»!
وفي السياق نفسه تفاعلت بعض وسائل الإعلام الغربية سلباً مع الحدث مبدية انزعاجها من الأمر مدّعية أن البشت أفسد لحظة التتويج الأسطورية، فاعتبرت صحيفة Bazonline التي تصدر باللغة الألمانية في سويسرا أن «الأمر مخجل»، في وقت صرّح فيه أحد محللي الهيئة العامة للبث الإذاعي في جمهورية ألمانيا الاتحادية (ARD) «أن الإجراء خطأ تماماً» وقد يكون لرئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) جياني إنفانتينو «دور غير حيادي فيه»، وبخاصة أن «البشت القطري وضع على كتف اللاعب الأرجنتيني دون أن يُسأل».
وفي السويد اعتبرت صحيفة Expressen أن في الأمر «محاولة لجعل لحظة الفوز بكأس العالم قطرية-عربية أكثر من كونها عالمية-أرجنتينية» الأمر الذي ورد بصيغة أخرى على لسان إحدى محللات قناة (TV4) بقولها «إنهم يريدون كتابة التاريخ بالطريقة التي يريدونها».
وفي حين اعتبرت صحيفة The Guardian البريطانية أن «اللقطة كانت لحظة لاسترجاع استثمار قطر البالغ قيمته 220 مليار دولار» كتبت صحيفة The Daily Telegraph «إنه لأمر مخزٍ أن تتم تغطية القميص الأزرق والأبيض الذي كان يرتديه ميسي ببشت عربي».
***
وحتى لا يقابل خطأ التأزيم بخطيئة التعميم، وحتى لا يرد على التقزيم بالتفخيم، وكي لا نسلك مسار المتحمسين الذين يحرقون المدن والعواصم إذا ما فاز فريق غربي على فريق عربي أو العكس بالعكس، ودون أن نقع في فخ الانحياز الأعمى أو الانتماء العنصري، ما يخفف من وقع كل ما سبق من سلبية أن المونديال كأي حدث عالمي بهذا الحجم هو موضع اهتمام الملايين من البشر مختلفي القناعات ومتعددي الانتماءات، فمن الطبيعي أن ينال ما يفيض من إطراء وثناء ويتلقى ما يكفي من انتقاص أو اقتصاص.
فليس مستغرباً، والحال كذلك، أن تتوجه أنظار الداعمين كما الحانقين الى النسخة الأحدث من المونديال الذي نجحت دولة قطر في أن تجعله- بشهادة الموضوعيين- أحد أهم الأحداث العالمية نجاحاً من الناحيتين التنظيمية والفنية، وأن تضفي عليه الطابع العربي قبل النكهة القطرية برسالة تأكيدية واضحة على دور العرب التشاركي والطبيعي في صناعة الأحداث الأممية والنجاحات التاريخية. إن كل ما قيل أو سيقال بحق الاستضافة القطرية للمونديال مردود عليه بنجاحات محققة أو بوقائع نافية أو بسوابق شاهدة، فالنجاح المحقق لا يحتاج لتأكيد، ويكفي لتهشيم ما ساقته بعض الألسن الغربية من انتقادات أو اعتراضات أو اتهامات على لحظة التتويج بالبشت العربي أن نستذكر قيام أسطورتي كرة القدم «بيليه» و«مارادونا» بعد تتويجهما كأبطال كأس العالم بارتداء القبعة المكسيكية وهي إحدى أهم وأشهر الرموز الثقافية والوطنية للدولة التي استضافت المونديال عامي 1970 و1986، وقد يفي في السياق سيل الإشادات التي أتت من كل حدب وصوب ممن لا ينطقون لغة العرب ولا ينتمون إلى ثقافتها.
فها هو الصحافي البريطاني الشهير Piers Morgan ينتقد بشدّة «النفاق الغربي» و«التمييز الطبقي» المرتكز على «تناقضات لا أخلاقية»، وها هي صحيفة The Print الأميركية تنتقد وسائل الإعلام الغربية التي برأيها أنها ردّدت بشكل لافت للنظر الكثير من «المزاعم والمواعظ الأخلاقية» عن حقوق العمال ومجتمع المثليين أثناء الاستعدادات للمونديال وخلاله، ولكنها تغاضت تماماً عن «الجشع الغربي» بما يؤكد أن هذه «الهجمات الكريهة» تشكل تعبيراً واضحاً عن «ازدواجية المعايير» المموهة ب«دموع التماسيح» التي يذرفها الغرب كلّما تعلّق الأمر بنجاحات تحققها الشعوب والثقافات الأخرى بما يستفز شعور الفوقية لديه.
***لا شك أن الفعاليات الرياضية هي مناسبة لتآلف القلوب وصناعة السلام وحوار الثقافات، فمن الخطأ حتماً الانجرار لا إرادياً الى متاهة «صراع الحضارات» التي يحلو للبعض زجّ شعوب الأرض في دوامتها، ومن غير الصائب ولا المفيد فعل التورط بمدافعة عمياء عن حدث قريب وجدانياً وجغرافياً من كل عربي، إلا أن المصادفة أدت دورها بشكل لافت في لحظة كتابتي لهذه السطور، حيث انتصر للبشت العربي فيلم غربي شاهدته في الليلة نفسها.
يتناول الفيلم الأميركي Just Mercy أي «الرحمة العادلة» المقتبس من قصة حقيقية دارت وقائعها عام 1989، تجربة المحامي الشاب «برايان ستيفنسون» ذي البشرة الداكنة والمتخرّج بدرجة الامتياز من كلية الحقوق في جامعة هارفارد، بتعاونه مع «إيفا أنسلي» ذات البشرة البيضاء في إطلاق «مبادرة العدالة المتساوية» بغية الدفاع عن الفقراء المحكومين زوراً نظراً للون بشرتهم أو طبقاً لدوافع لا تمت للحياد بصلة وأسانيد تتناقض مع الحقيقة.
يركز الفيلم على قضية «والتر ماكميليان» الذي أدين ظلماً بجريمة قتل فتاة «شقراء» في عام 1986 وبقي في سجنه منتظراً تنفيذ حكم الإعدام بحقه الى أن استطاع المحامي الشاب تغيير المسار القضائي وإظهار حلقة مريبة في ملف التحقيق المعتمد كلياً على شهادة رجل مجرم قدّم شهادة شديدة التناقض قدّمها لبعض الفاسدين العنصريين للحصول على عقوبة أخف في محاكمته المعلقة.
المهم في الفيلم أنه يكشف في أحداثه وفي ختامه عن بعض الجوانب المظلمة من «حلم العدالة الأميركية» حيث أثبتت الإحصاءات ونطقت الوقائع التي وثقتها «مبادرة العدالة المتساوية» وغيرها من مبادرات الدفاع عن حقوق المستضعفين من شعوب وإثنيات مختلفة أن هناك نسبة مئوية مرتفعة ممن يقبعون ظلماً في السجون الأميركية والغربية بشكل عام، الأمر الذي يقارب بشكل أو بآخر اختلال ميزان العدل في السياسات الدولية وفي العلاقات الثنائية!
***لقد غطى البشت العربي أكتاف ميسي ليكشف زيف بعض المتغطين بالحضارة الغربية، كما وصلت أصداؤه الى حيث لم يصل كل الصراخ غير المسموع والعويل غير المجدي والاستجداء غير المنتج، فالواقع لا يعترف الا بالإنجاز، والبرّ لا يدرك الا بالاجتياز، والحق لا يحصّل إلا بالإحراز، فلنستبدل بالغضب العمل وبالإحباط الأمل وبالاستنكار العزيمة والحكمة والإصرار.
* كاتب ومستشار قانوني