إنه من أعمدة القصيدة الحديثة

ثورة التجديد في القصيدة العربية الحديثة رغم أن بداياتها كانت متباعدة ومتقطعة على يد باكثير، وشكري، ولويس عوض، لكنها تأصلت واستمرت على يد السياب، ونازك، والبياتي، بينما استُبعد بُلند الحيدري عن شهرتهم، مع أنه لا يقل عنهم إبداعاً، وظهر في نفس الحقبة التي ظهروا فيها، لأنه لم يُعِر موضوع الأولوية في ريادة الحداثة التفاتاً، ولهذا لم يأخذ حقه من الشهرة مثلما حظي بها السياب، ونازك، والبياتي.

***فبلند - رحمه الله - لم يكن لديه الوقت ليخوض معارك من دون كيشوتية حول الترويج لنفسه مثلما كان يفعل سواه، ورغم ذلك تمكن بإبداعه أن ينتزع كلمات الإعجاب من السياب، الذي كتب في عام 1956: «بُلند الحيدري هذا الشاعر الممتاز اعتبر العديد من قصائده الرائعة أكثر واقعية من مئات القصائد التي يريد منا المفهوم السطحي للواقعية أن نعتبرها واقعية».

وكان البياتي سبق السياب حينما كتب عام 1952: «إن بُلند شاعر مبدع في أساليبه الجديدة التي حققها، وفي طريقته التي لا يقف فيها معه إلا شعراء قلائل من العراق».

وقام ديزموند ستيوارت بترجمة أشعار بُلند الى الإنكليزية، حيث كتب عنه في المقدمة:

«إن شعر بُلند يعبر عن الشعور بالخيبة التي تكتنف العصر الحديث، وهذا التعبير هو أصدق من قصائد الحماسة المتعمدة التي ينظمها الشعراء السياسيون، حيث يهاجمون جميع الناس لجميع الأسباب».

***عاصرت الشاعر بُلند الحيدري سنوات عندما كنا نعمل معاً في مجلة المجلة بلندن، وقد استضفته يوماً لأجري معه حواراً إذاعياً على الهواء مباشرة في إذاعة كل العرب، وبينما نحن وراء الميكرفون فاجأته الأزمة القلبية، فسرعان ما استخرج من جيبه حبة، ووضعها تحت لسانه، مما أصابني بالهلع، ولكنه بعد أن شرب الماء أخذ يتمتم بالتالي:

يا موتاً لا يعرف كيف يموت

يا موتاً أكبر من تابوت

لن يعرف كيف يموت

وبعد أن شعر بالراحة طرحت عليه السؤال التالي:

- ما دور المثقف العربي في تاريخنا المعاصر؟!

- أين هو المثقف العربي؟!

- ماذا تعني؟!

- أعني أن المثقف العربي موزع تحت ثلاثة أنواع من القهر المنظم الذي تمارسه السلطة ضد الثقافة.

- كيف؟!

لأن معظم الدول - والثورية منها تحديداً - فرضت على المثقف أن يكون خاضعاً لتوجهاتها، وهذا ما أنتج ثلاثة نماذج من المثقفين.

- أيمكنك تحديد نوعية هذه النماذج؟!

- الأول هو نعال في رجل النظام، والثاني هو القرد الهندي الذي لا يسمع، ولا يرى، ولا يتكلم. أما الثالث، فهو الذي فر من الوطن للبحث عن وطن جديد.

- ما الذي يشغل بُلند الحيدري الآن؟!

- إنني أكرس كل جهدي، بعد سلسلة الهزائم والحروب في بُلداننا، للتصدي للإرهاب، والحروب التي تعصف بالمنطقة.

- كيف؟!

بالقصيدة، بالكلمة، بالاحتجاج، بالتظاهر.

***بعد هذا الحوار بأيام قلائل انتقل بُلند الحيدري إلى رحمة الله، فرثيته في المقبرة أمام حشد من الذين شاركوا في جنازته. فرحم الله الشاعر الإنسان بُلند الحيدري.