أين «الكتلة المليونية»... يا إيران؟
أبرزت الانتفاضة الشعبية الأخيرة في إيران التي انطلفت مع أكتوبر 2022 ولا تزال مستمرة، عدة حقائق:
1- أظهرت ضعف شعبية النظام، وبيّنت مدى اعتماده على القمع وأجهزة الأمن، رغم مرور أكثر من أربعين سنة على تأسسيه، إذ لم تتحرك مثلا «الجماعات» الإيرانية المؤمنة به للدفاع عنه بمسيرات وشعارات تظهر التأييد «لولاية الفقيه» أو الالتفاف حول النظام الذي وجد نفسه معزولاً ولا يزال منفوراً منه حتى الآن!
2- بيّنت سطحية منجزات «التيار الإصلاحي» داخل النظام، والذي تزعم محاولات إصلاحه وترقيعه، وتعمقت في الوقت نفسه مخاوف المسؤولين والسلطة من أن أي محاولة إصلاحية، وبخاصة إن كانت باتجاه الحرية والديموقرطية، ستفكك النظام وتسقطه، كما لم يتقدم «التيار الإصلاحي» بأي مقترحات لحل مشاكل هيكل النظام وأسسه، وأصل «ولاية الفقيه» التي تتحكم في كل الأمور، ولا يعبأ بها الشارع حقا، أو يعتبرها ذات قيمة، رغم مرور أربعين عاما من الترويج والتعليم والتعبئة.
3- أظهرت الحركة الدور القيادي للشباب، وظهر بجلاء فشل التعبئة الدينية، ورفض الجيل الجديد لقيم النظام حتى في المدن الدينية، وأبرزت الحركة الدور الرائد للمرأة الإيرانية، وأظهرت حركة المرأة بدورها الفجوة الهائلة بين النظام والمفاهيم العصرية.
4- أبرزت الدور الريادي للطلبة في الدفاع عن الديموقراطية الليبرالية بما فيه عدم معاداة العالم الغربي- الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وكندا- وهو التوجه الذي لم يبرز في الربيع العربي بسبب ثقل الجماعات الإسلامية ولأسباب أخرى، بل نجح الإسلاميون في العالم العربي في توجيه التحرك الواسع ضد أهدافه وبخاصة في بناء مجتمع ودول حديثة «مثل أوروبا»، كما كانوا يحلمون في بداية التحرك.
5- عززت الانتفاضة الإيرانية وحدة الشعب الإيراني من الشمال إلى الجنوب، وأبرزت تلاحم القوميات والأديان والمذاهب، وكانت كلها توجهات تفكيكية رائجة، انتعشت في إيران فترة طويلة لأهداف سياسية، وتراجعت أهمية الانقسامات القومية بين الفرس والأكراد والأتراك الأذريين، والبلوش والعرب، كعامل معرقل لأي معارضة أو تحرك.
ومن الظواهر السياسية المهمة التي رافقت الانتفاضة الحالية تحريك التجمعات الإيرانية في المهاجر الأوروبية والأميركية وغيرها، حيث أدت دورا مهماً في دعم الحركة داخل إيران وتقوية معنوياتها، ولفت أنظار المجتمع الدولي.
6- أظهر استمرار وتواصل الحركة الإيرانية عزلة النظام وفشل سياساته، وعدم قدرة مفاهيمه على إقناع الداخل والخارج بالموقف الحكومي الذي اعتمد لسنين طويلة على القمع والفساد والعنف ومفاهيم دينية ومذهبية متزمتة.
ولم يبرز في الميدان الإعلامي مفكرو النظام ومنظروه من الإسلاميين الذين كان لهم نشاط فكري معروف في التمهيد للثورة الإيرانية عام 1979، وخلال بعض السنوات اللاحقة مثل د. علي شريعتي وجلال آل أحمد ومن يقوم مقامهم، بل صار النظام يهدد أنصاره بما سيحل بهم إن انتصرت الحركة الطلابية وسقطت جمهورية ولاية الفقيه الحالية، وبأن الجماهير الغاضبة ستفتك بهم جميعاً.
7- لم تنجح الانتفاضة للأسف رغم استمرارها في عدة مدن ولعدة أشهر في تحريك جماهير واسعة ضد النظام، كما في الربيع العربي أو الثورة السودانية أو رومانيا وشرق أوروبا مثلا، ولهذا لم يضطر النظام إلى التعامل معها بكل معدات القمع الرهيبة التي يمتلكها، والتي قد يلجأ إليها في اللحظة الحرجة.
ومن بين ما يهدد هذه الانتفاضة المناورة السياسية بأن يعمد النظام إلى بعض التغييرات المظهرية أو الشكلية التي قد يتلبسها بتوسيع حدود الحريات الاجتماعية في مجال المرأة والحياة الثقافية والترفيه والسياحة والحريات السياسية الشكلية وغير ذلك.
ولا شك أن البنية الدينية والمذهبية للنظام وقيادته العقائدية لا تسمح له بتحرك واسع في هذا المجال لكنه قد يلجأ إلى «حركة إصلاحية وطنية» لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبخاصة أنه لا يزال يملك الكثير من المال والميليشيات والنفوذ ومحالات المناورة، كما لا نعرف بوضوح كيف تنظر قوى الأمن والميليشيات وغيرها من الأوضاع، وكيف تخطط للخروج من المأزق والاستعانة بكل من روسيا والصين والميليشيات في أكثر من دولة مجاورة.
ويمكن القول إن المعارضة والجماهير الإيرانية رغم تضحياتها وصمودها خلال هذه الأشهر المتوالية فإن «الكتلة المليونية» لم تتحرك حتى الآن في إيران.
ولم يضطر النظام الى تقديم أي تنازل لمعارضيه في مجال الحقوق والحريات ولا يزال يمارس القمع والإعدام بعد محاكمات صورية سريعة، ويمارس في السجون والاستجوابات أبشع الممارسات.
ولا تزال سياساته في علاقاته الخارجية والدولية على حالها، وإذا نجح في إخماد الانتفاضة فسيبادر حتما الى اقتلاع وسحق كل المشاركين فيها، ممن تم تصويرهم واعتقالهم وستزيد السلطة العنف مهما اشتد حزن الإيرانيين وعلا نواح الأمهات، لكن نظام «ولاية الفقيه» الجمهوري الإسلامي بلا شك قد افتضح أمره علناً بالجرم المشهود.