إن الريح جند من جنود الله، يأمرها أن تتشكل وتتوجه حيث ما أراد ربها، فقد تُرسَل بالبشرى والخير «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ»، (الأعراف57)، وقد ترسل بالعذاب والدمار «رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ» (الأحقاف24). وللريح مسميات عديدة عند العرب، تطلق على حسب أوصافها وطبيعتها، كالشمالي والنسيم والبارح والحنون والصبا والدبور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبُورِ». وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن سب الريح لأنها مأمورة، بقوله: «الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بالعَذَابِ، فَإِذا رَأَيْتُمُوهَا فَلا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللَّه خَيْرَهَا، واسْتَعِيذُوا بالله مِنْ شَرِّهَا».

ولم يسخّر الله سبحانه وتعالى هذا الجندي العظيم لبشر إلا لسيدنا سليمان عليه السلام، «فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ» (ص36)، أي لَيِّنة منقادة لأمره، لئلا تزعجه، ولتحمله بعسكره وجنوده وموكبه حيث ما شاء، وكان عليه السلام يتحكم بقوة الريح، فتارة رخاء طيبة لينة، وتارة عاصفة قوية شديدة: «وَلِسُلَيْمن ٱلرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ». (الأنبياء81)، فسبحان من طوّع عظمة الريح لملك سليمان يتحكم فيها كيف شاء.

Ad

ومما استوقفني في تأمل قصة سيدنا يوسف عليه السلام، هو عندما أمر أن يذهبوا بقميصه ويلقونه على وجه أبيه يعقوب ليرتد بصره، ما رواه البغوي في تفسيره والطبري أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب برائحة يوسف قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها وكأنّها كائن حي يشعر بمحيطه ويتفاعل معه! وهنا المعجزة الأخرى، التي جعلت البشرى تسبق البشير! وتجعل حاسة الشم تسبق السمع والبصر من بعد ثمانين فرسخا، وهي مسيرة ثمانية أيام تقريبا! فسبحان من جعل البشارة رائحة تحملها الريح، وهي محفوظة بقبضتها، حتى لا تخالطها روائح أخرى، لتصل إلى يعقوب ويشمها كما هي في لحظات! «وَلَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ قَالَ أَبُوهُم إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولَآ أَن تُفَنِّدُونِ». (يوسف94)، وكانت الريح هي أول البشارات في هذه القصة، وكأنّها تريد أن تكون أول من سجّل هذه اللحظات الجميلة، وتبشر الأب المكلوم الذي انقطعت به السبل، بقرب لقاء حبيبه المفقود وقرة عينه. وما زال الشعراء إلى يومنا هذا، وهم يتغنون بأسماء الرياح، ويستبشرون ببعضها، ويشكون لها الحال:

«أيا ريح الشمال ما تريني.. أهيم وإنني بادي النّحول».

«يا نسيم الفجر».. «صبا نجد خبرني».