أن تعتذر ونعتذر
حاصروها في ذاك اليوم اللامتناهي، وصاروا يرددون عليها ما الذي لا توافقين عليه؟ ولماذا هذا التعالي على الآخرين؟ وكثرت أسئلتهم حتى بدا للمستمعين من بعيد أنها بحاجة أن تراجع نفسها أو ربما تعتذر، نعم «تعتذر» تلك الكلمة البسيطة جداً في عدد أحرفها والغنية بما تحمله من معنى واحترام لعقل الآخر، وأيضا لما عاشه أو مر به أو قرأ عنه أو حتى سمع عنه، وهي التي تسقط أحيانا في تلك الخانة أي خانة الدفاع بدل الهجوم حتى تبدو وكأنها ضبطة متلبسة بالجرم المشهود كما كنا نسمع في تلك الأفلام!
راحت تعتذر بدمثاتها المعتادة محاولة أن تبتعد عن إثارة نقاش آخر قد ينتهي إلى اللا شيء كالعادة، فمعظم نقاشاتها وحوارات الكثير من المقربين من فكرها متشابهة ألا وهي الوقوع في مطب الاستمرار في التبرير، ربما لتصرف هنا فُهم خطأ أو كلمة هناك أو حتى موقف لآخرين بعيدين جداً، لكنها أو هم صبغوا بصبغتها ربما لأننا احترفنا محاسبة النوايا، ومعاقبة الأفكار، حتى قبل أن تتحول إلى كلمات تنطق أو تكتب، فكلنا ندعي أننا نعرف ما يفكر فيه الآخرون، وكلنا قضاة نسلط قوانيننا الخاصة ضد الآخر.
عادت هي إلى دائرة الأسئلة التي تطاردها، والجمع يوشك أن ينفض، وهي تتمنى أن تنتهي تلك الأمسية أسرع من ارتشافهم لأكواب الشاي والقهوة وأطباق المأكولات! لكنهم عادوا كالذئب المحلق خلف فريسته وترقص في دوائر لتخيف الآخر أو ربما تهز من معنوياته أو نفسيته ثم تنقض بأسئلة لا يمكن وصفها بأكثر من أنها بلهاء أو تافهة حد الإسفاف في ذلك الفعل!
كل هذه الزوبعة بدأت لأنها، وبعض الآخرين، لا تروق لهم بعض التجمعات التي تتحول مع الوقت لألوان مختلفة، وتأتي بشخصيات لا تملك ما تضيف سوى بعض الضجر في مساءات الأربعاء من أول كل شهر!! هي وآخرون لا يملكون ولا يريدون أن يملكوا الأمر والنهي والمنع والمنح، فقط الحق في أن يقولوا لست مهتما بأن أستمع لها أو له ولا يعنيني ما سيقولون ليبرروا لماذا هم يعملون ليلا نهارا للترويج لتلك الاتفاقيات العفنة، نعم أن تضع يدك في يد قاتل محترف بل فاشيّ يقتل بدم بارد، ويسلب الأرض استنادا لحق إلهي أو ادعاء باطل بتفسير خطأ لكتاب سماوي! أو ربما سئموا الاستماع إلى أصوات المدعين وهم كثر، ومنهم مدعو الفهم في الاقتصاد وعالم المال وعالم السياسة ومدعو أو حاملو لقب صحافي أو خبير أو سفير سابق أو وزير أسبق أو... أو... بعضنا كره أن يتحول إلى السلبية التامة والموافقة على الاستخفاف بعقله حد الاحتقار، وكثيرون من حملة الألقاب هم بالفعل بصامون محترفون في شكل من أشكال النصب الحديث الأكثر «فزلكة» لا النصب الفج.
وعندما تحاول أن تكون الأكثر تفهما أو محاولة لتفهم الآخر والاقتراب منه أو حتى تحمل الاستماع لما يسمى شهادات من مسؤولين، وتقول لم لا يعتذرون أولاً ثم قد يستطيع بعضنا أن يستمع محاولا بجهد أن يفصل بين الكلمة الحقة، وتلك التي رسمت بعناية لتبرير كل الانتهاكات التي كانت ولا تزال تشكل جرحا نازفا لم يندمل، بل أغلق عليه بشكل مؤقت.
حتى ذاك المسؤول الكبير المتشدق بالحديث والدفاع عن حقوق الإنسان هو الآخر يرفض الاعتذار عما فعلته حكوماته بجيوشها ومخابراتها وسياسيوها من انتهاكات بالإمكان أن تسمى جرائم ضد الإنسانية واسألوا الجزائريين عن ذلك الوجع، وكل العرب الذين وقفوا ولو من بعيد يناصرون ذاك الشعب، والملايين يسقطون... امرأة خلف امرأة، ورجل خلف رجل، وطفل خلف طفل، وشيخ بعد شيخ، يسقطون تحت قصفهم وأدوات قتلهم الحداثية مثلهم!
اعتذروا ثم قد نستطيع جميعا أن نبدأ تلك الصفحة البيضاء، ونطوي سابقاتها المرقعات ببقع الدم أو السواد الذي ملأ كثيراً من قلوبهم أو ربما كان هدفه ملء جيوبهم ببعض الدنانير؟ ثم ماذا؟ تصوروا أن الذاكرة ضعيفة والشعب بأكلمه أصيب بلوثة من مرض النسيان الدائم، وصاروا قادرين أن يستفزونا بالحديث عن إنجازاتهم وإبداعاتهم في الديموقراطية والمساواة والدفاع عن حقوق الإنسان، في حين كثيرون ما زالوا يداوون الجراح التي كانت، ربما لو تعلموا وتعلمنا ثقافة الاعتذار حينها لطوينا الصفحة واستمعنا لأصواتهم دون الإحساس المستمر بالإهانة لعقولنا وذاكراتنا.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.