يروى في قصص الأدب الشعبي الفرنسي أن عبّارة مائية حملت على متنها رجلاً يدعى «بانورج» وتاجر أغنام جشعا يدعى «دندونو» كان ينقل قطيعه بغرض بيعه في الطرف الثاني من البرّ، وقد حدث أن ثار خلاف بين الرجلين تمادى فيه التاجر بغطرسته وأظهر الصورة الأبشع لعدم إنسانيته– على حد وصف كاتب القصة الأديب الكبير رابليه Rabelais- فوجّه الى السيد «بانورج» أقذر الشتائم وأشنع الألفاظ، مما حدا بالأخير الى التفكير بالانتقام لكرامته.
وبعد هدوء الشجار، بادر السيد «بانورج» الى شراء الخروف الأكبر في القطيع بثمن باهظ، الأمر الذي أسعد التاجر، حيث أوحت له «الأنا» المتضخمة لديه أنه كما انتصر في الشجار سيفوز بصفقة رابحة وغير متوقعة.
وبعد أن تسلم «بانورج» زعيم الخرفان، جرّه من قرنيه بطريقة تلفت أنظار القطيع والركّاب معاً، ومن ثم دفع به الى طرف السفينة ليلقي به إلى البحر... فما كان من الخروف الأقرب إلى الحدث إلاّ أن تبع خطى الخروف «القائد» ليلقى مصيره نفسه من الغرق... ومن ثم تكرر المشهد مع توالي الخراف واحداً عقب الآخر في اتباع التصرف نفسه والقفز الى عباب الموج وسط عجز التاجر عن إيقافها وذهوله مما يحدث!
***ومن الفرضيات الخيالية ذات الدلالات الفلسفية أنه إذا أمسكت ضفدعاً ووضتعه في وعاء من الماء وأشعلت النار تحته، فستلاحظ أن الضفدع يتكيّف مع الارتفاع التدريجي للحرارة، فيبقى في الوعاء الى أن تصل المياه إلى عتبة الغليان التي لا يتحملها جسمه الهزيل، حينئذٍ عبثاً يحاول الضفدع القفز من الوعاء، فيخونه جسده المتعب بسبب جهود التكيّف، فيلقى الموت مصيراً محتماً والذوبان نتيجة مؤسفة!
***
إن ما دفع قطيع التاجر الجشع للقفز طوعاً في حضن الموت هو اتباع الخراف خطوات زعيمها الذي سبقها في الدرب، وفي حين يقول البعض إن ما قتل الضفدع هو غليان الماء، تشي الحقيقة أن ما قتله هو استسلامه لمقدرة التكيّف لديه وعدم استطاعته تحديد الوقت الملائم للقفز والنجاة.
لعلّ في الأمثولتين ما ينطبق كثيراً على الجماعات المنقادة الى مصيرها الأسود باتباع أعمى لخطى القطيع، المبتهج بطاقة التكيّف لديه، والمتفاعل مع متطلبات الحياة بجهل مطبق واستسلام مريب، فليس أخطر على المجتمعات من تفشي روح القطيع بين مكوناتها، وليس أسوأ من أن تصادف مليون تابع لقائد جاهل، وليس أفظع من أن تصبح المواقف ترداداً وإذاعة لا أصالة وقناعة، وليس أهول من أن يموّه الخنوع بالتكيّف ولا أن يزيّن الخضوع بالمقدرة على التأقلم.
***يعرّف المتخصصون ظاهرة «سلوك القطيع» بأنها تصرف البشر في الجماعة الواحدة بسلوك متشابه في الوقت نفسه، فيميل الأدنى مركزاً والأقل تأثيراً منهم الى التمثّل بسلوك من هم أعلى مركزاً أو أحسن حالة وأرفع مكانة اجتماعية أو وظيفية أو مالية.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا السلوك «الغريزي» انقياد التابعين لمنظري الجماعات السياسية والاجتماعية والفكرية، ويأتي في السياق نفسه التعصب العنصري لأي انتماء طائفي أو إثني أو قبلي، وكذلك انتقال موجات الغوغائية والعشوائية في صفوف الحشود أثناء المظاهرات، وفي الاقتصاد تتكرر ظاهرة تقليد المبتدئين في سوق الأسهم لقرارات من سبقهم في التجربة والملاءة، الأمر الذي يطابق سلوك الأفراد عند اتخاذهم القرارات الشخصية والمصيرية تقليدياً لنجاحات الآخرين دون النظر الى الفروقات في المعارف والمهارات والمقدرات.
يفسّر العلماء هذا السلوك البشري بأنه شعور لا إرادي بالضعف لدى الفرد تجاه قوة الجماعة وسيطرة القناعات الرائجة والتقاليد السائدة، فكي لا يلفظه المجتمع، يختار الضعيف الطريق الأسهل والأضمن فيسلك مسلك قومه، ويتبع قول كبيرهم، فيظهر القطيع بمظهر الوحدة الواحدة التي يذوب فيها الفرد ويتخلى عن فكره وميوله وطموحاته، مما يعرضه للسوء إن ساء وضع الجماعة ويطبع خياراته وقراراته بالفشل كلما تبعت جماعته منهجاً مغلوطا، وهذا ما يسميه علم النفس ظاهرة «العقل الجمعي» أو «المطابقة الاجتماعية».
***إن مناهضة هذه الظاهرة النفسية والسلوك الاجتماعي لا تعني التخلّي عن روح الجماعة أو مبدأ التشاور، ولا تعني بالطبع التنكر لنزعة التقليد التي فطر بنو البشر عليها، لكنها دعوة لأن يكون لكل منّا في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وفي جميع ميادين العلم والعمل، موقف واضح ورأي سديد من شأنه أن يقود الدفّة أو على الأقل يؤثر في مسار التوافق الجماعي والتآلف الاجتماعي.
لا شك أن دور العقل أرجح من نزوات العاطفة، ورشادة القرار أقوم من عشوائية التقليد، وصوت الحكمة أوقع من لهفة الحماسة، وهناك فرق كبير بين الانعزالية والفردية، وبين المشاركة الفاعلة للفرد في القرار الجماعي، فالاستسلام لا يصنع القادة والتبعية لا تصنع إلا المتبوعين، كما أن التأقلم والتكيّف لا يجران إلا خمولاً وانتظاراً قاتلاً لسوء الخاتمة.
* كاتب ومستشار قانوني