تعلمت الكثير خلال رحلتي المهنية عن الفرق بين الترويج لفكرة ما والإيمان المطلق بها وتحقيقها على أرض الواقع. أتحدث في هذا الخصوص عن قدرة المؤسسات على تطبيق الخطط الاستراتيجية في مجال خدمة العملاء التي عملوا على إعدادها وسعوا إلى تحقيق أهدافها. ومن هذا المنطلق، أرى أن معظم المؤسسات تدرك أهمية جودة الخدمة والحصول على رضا عملائها، وأن الأغلبية تكتفي بالكلام عن هذا الموضوع، وتنقسم إلى مجموعتين، الأولى لا تدرك حقا كيف تحظى برضا عملائها، والثانية لا تهتم بما فيه الكفاية.
يذكرني هذا الأمر بمن يزور الطبيب للفحص السنوي ويخرج مصدوما بنتيجة التحاليل التي تشير إلى ارتفاع ضغط الدم، والسكر، والسمنة.... إلخ. عندها يبدأ الطبيب بنصح مريضه بتخفيف الوزن، وممارسة الرياضة، والابتعاد عن أكل الدهون والسكريات، (جميعها أمور نعرفها، ولكن نادرا ما تجد من يمارسها بانتظام) عوضا عن تناول الدواء. بيد أن المريض يلجأ إلى تناول الدواء لأنه أسهل عليه بدلا من الحمية والرياضة وتغيير نمط حياته.
أظهرت دراسة إحصائية في موضوع التميز في الخدمة أساسه الآلاف من التقييمات عبر السنين، ثلاثة أنواع من المؤسسات: 1) مؤسسات لا تهتم مطلقا بجودة الخدمة لأن لديها أولويات أهم مثل التركيز على المبيعات، وتقنين المصاريف، والديمومة، وهذه الفئة لحسن الحظ تمثل 15% فقط. 2) الفئة الغالبة وتمثل 80% من الشركات تؤمن بجودة الخدمة، ولكنها لا تتبع نظاما متكاملا لتوفير بيئة تحتضن وتعزز التميّز. 3) الفئة الأخيرة وتمثل 5% من الشركات فقط هي التي تتبع بنية تحتية مرتكزة أساسا على خدمة زبائنها على أكمل وجه بهدف نيل رضاهم باستمرار.
علينا أن نفرق بين مفهوم الخدمة، ومفهوم التميز في الخدمة، حيث إن الخدمة هي اتخاذ مجموعة من الإجراءات لخلق قيمة أو منفعة للعملاء، بينما التميّز في الخدمة هو البحث المستمر لتحسين وتطوير الإجراءات لزيادة هذه القيمة. من أجل أن تتميّز الشركات في الخدمة يجب عليها أن تركز جلّ اهتمامها على الممارسات التي تخلق قيمة لعملائها من خلال اتباع برامج شاملة ومتكاملة تساعد على بناء ثقافة التميّز داخل المؤسسة.
يذكرني هذا الأمر بخطة اتبعها عمدة مدينة نيويورك في أواخر التسعينيات من القرن الماضي سميت «نظرية النوافذ المكسورة»، وهي مأخوذة من علم الاجتماع، ومبدأ هذه النظرية ببساطة أنه لو سمح بوجود بيت مهجور في حي ما فإن هذا البيت سيصبح مرتعا للقمامة وأمور سلبية أخرى، مثل الكتابة على الجدران وتكسير النوافذ مع الوقت، ويغدو مأوى جذابا للخارجين عن القانون، مما يزيد من حوادث الإجرام في المنطقة. يؤكد علم الاجتماع أن مخالفة القوانين تزداد بمعدل عال جدا عندما لا تتم محاسبة ومعاقبة المخالفين. أدخلت المدينة مبدأ «صفر التسامح» بالمخالفات حتى الصغيرة منها، لمكافحة زيادة الإجرام، وطبق هذا المبدأ على جميع وسائل النقل العام والمباني والأماكن العامة في المدينة بمساعدة أفراد الشرطة. وبعد مرور سنة من اعتماد وتنفيذ الخطة انخفضت نسبة الجرائم بدرجة ملحوظة أكثر من أي وقت مضى.
تؤكد تلك التجربة أهمية اعتماد منظومة شاملة لخلق ثقافة للتميّز في الخدمة في أي مؤسسة، سواء كانت تجارية أو حكومية أو غير ربحية تعمل على تحقيق رؤية أو هدف واضح. تشكل هذه المنظومة مثلثا متساوي الأضلاع يتكون من القيادة أولا، وكسب القلوب ثانيا، وإقناع العقول ثالثا. ويمكن شرح هذه الأركان الثلاثة بإيجاز: يعتبر ركن القيادة محوريا، حيث يحدد الهدف والغاية والرؤية بخصوص التميّز، وعلى الفريق القيادي توفير الدعم وتقديم النموذج الذي يحتذى به للتميّز، أما ركن كسب القلوب فإنه يخص تحويل أعضاء الفريق من الارتباط المادي بالمهمة والرسالة إلى الارتباط العاطفي بهما، وثالثا يتضمن ركن إقناع العقول التنفيذ المنهجي للخطط من خلال وجود أنظمة ومعايير وموارد موضوعة في مكانها الصحيح.
يتبين من خلال دراستنا عن جودة الخدمة أن معظم الشركات لا تستخدم المنظومة الشاملة المكونة من الأركان الثلاثة، فأكثرها يصب اهتمامه على ركن واحد فقط يتعلق باستخدام أنظمة وإجراءات ومعايير دون الاهتمام الكافي بكسب حماس الفريق، أو مكافأته على تقديم مستوى عال من الخدمة أو حتى وجود هدف واضح لحشد الفريق. وبطبيعة الحال فإن التركيز على ركن واحد من الأركان الثلاثة لن يأتي بالنتيجة المطلوبة، وهي الارتقاء بمستوى الخدمة حتى تنال رضا العملاء وولاءهم.
وختاما يسعنا القول إن التميّز في الخدمة لا يتحقق بالنظرية فقط، بل يحتاج إلى تطبيق عمل مستدام لنيل رضا العملاء على المدى الطويل. إن الشركات التي نجحت في ضمان نيل رضا عملائها اعتمدت مبدأ «صفر التسامح» مع أي خلل في منظومة مثلث الخدمة من شأنه أن يؤثر سلبا على رضا عملائها.
* رئيسة شركة سيرفس هيرو الكويتية