كثر الجدل في هذه الأيام حول المادة (80) من قانون التأمينات الاجتماعية التي تخول مجلس الوزراء منح معاشات استثنائية، والإسراف في منحها إلى حد تقديم بعض النواب اقتراحا بإلغائها، وهو جهد مشكور منهم بعد الإسراف في استخدامها، كما قلت في مقال سابق، ذلك أن هذا النص لم يشرع كي يكون سلطة مطلقة لمجلس الوزراء، يقررها، بغير قيد أو شرط، بل لضرورة تقدر بقدرها، وهو نص لا يهيم في فراغ بعيداً عن نصوص قانون التأمينات الاجتماعية الأخرى أو روح هذا القانون، أو نص الدستور وروحه الذي صدر هذا القانون تنفيذاً له، ولا يغيب عن مجلس الوزراء أيضاً الأهداف المشروعة لمفهوم المعونة الاجتماعية أو مفهوم نظام التأمينات الاجتماعية.
روح الدستور والقانون
ويأتي قانون التأمينات التزاماً بأحكام المادة (11) من الدستور فيما نصت عليه من أن «تكفل الدولة المعونة للمواطنين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل، كما توفر لهم خدمات التأمين الاجتماعي والمعونة الاجتماعية والرعاية الصحية».
والتكفّل الذي استهلت به المادة (11) سالفة الذكر أحكامها، له معانٍ متعددة في اللغة، وفي الآيات البينات من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ». (الآية 28 سورة الحديد)، وقوله سبحانه: «مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً». (الآية 85 سورة النساء)، كما يقول عز وجل: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ». (الآية 91 سورة النحل) ويقول جلّت قدرته: «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ». (الآية 44 سورة آل عمران).
فالكفل في الآية الأولى والثانية بمعنى الضعف أو النصيب، والكفيل في الثالثة بمعنى الشاهد والرقيب، وبمعنى الضامن، وفي الآية الرابعة بمعنى المعيل.
فالدولة هنا بكل أجهزتها مخاطبة بأحكام المادة (11) من الدستور في التزامها بكفالة المعونة الاجتماعية أو توفيرها أو توفير خدمات التأمين الاجتماعي والرعاية الصحية، تجمع بين جميع هذه المعاني، مكافئاً ومعيلا وضامنا ورقيبا وحسيبا في قانون التأمينات الاجتماعية بنصوصه كافة.
والمادة (80) من قانون التأمينات الاجتماعية فيما خولته لمجلس الوزراء من منح معاشات استثنائية، هي جزء لا يتجزأ من نظام التأمينات الاجتماعية، وإن كانت استثناء من قواعده وأحكامه، يحكمها روح الدستور وروح القانون في شأن التأمينات الاجتماعية، فهي أكبر من مواده، ومغزاها يجاوز حدود ألفاظه، وهي تنشر في ربوع البلاد الطمأنينة وتبث في نفوس المواطنين السكينة، متوخية في ذلك المصلحة العامة لا تحيد عنها أبداً.
فالمادة (80) ليست طائراً خارج سرب الأخطار التي يغطيها نظام التأمينات الاجتماعية من شيخوخة أو عجز عن العمل أو مرض أو وفاة أو بطالة، وبالقدر الضروري لاستخدام الاستثناء الوارد فيها سواء في حالات استحقاق هذا المعاش أو في مقداره.
فالتكافل الاجتماعي الذي يقوم عليه نظام التأمينات الاجتماعية مستمد من المبادئ السامية في الرحمة والتعاون بين المشمولين بنظام التأمينات الاجتماعية، وفي الرحمة بالأجيال القادمة، ومع ما هو معلوم من أن المصدر الرئيس للدخل القومي هو النفط، وهو مصدر ناضب وفي أفول، وعلى المجتمع كله مجتمع الوفرة والرفاهية أن يتحمل بعض الأعباء المالية لصالح هذه الأجيال.
الأهداف المشروعة
وقد جاءت هذه المادة في الترتيب، بعد النص على دعامات المجتمع من عدل وحرية ومساواة، التي تصونها الدولة وتكفل الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص للمواطنين وحفظ كيان الأسرة أساس المجتمع، وحماية الأمومة والطفولة، ورعاية النشء.
هذه هي الأهداف المشروعة لقانون التأمينات الاجتماعية، لا يخرج عنها قيد أنملة، وهي أهداف تحكم استخدام كل نص فيه، بما في ذلك نص المادة (80) التي خولت مجلس الوزراء منح معاشات استثنائية، فمثل هذا النص لا يهيم في فراغ بعيداً عن هذه الأهداف، فهي قيد على مجلس الوزراء في استخدام هذه السلطة الاستثنائية.
وفي مجال تطبيق هذا النص ينبغى ألا يغيب عن تطبيقه، نصوص الدستور الأخرى، ومنها العمل باعتباره أحد دعامات الكيان الاجتماعي للدولة (المادة 16) من الدستور، وهو حق وواجب على كل مواطن تقتضيه الكرامة ويستوجبه الخير العام. (المادة 41)، وألا يخل تطبيق نص المادة (80) بتكافؤ الفرص بين المواطنين الذي تصونه الدولة في المادة (8) من الدستور، أو بالمساواة لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة التي تنص عليها المادة (29) من الدستور.
وقد حدد قضاؤنا الدستوري في الكويت المقصود من مبدأ المساواة أمام القانون، بأن يكون الجميع سواء لا تفرقة بينهم أو تمييز، فالحقوق والمزايا التي يمنحها القانون، وينعم بها المخاطبون بأحكامه يستظلون بها وفق قواعد موحدة، وتحظى من القانون بحماية واحدة، وبدرجة متساوية من الواجبات والالتزامات التي يفرضها القانون عليهم ويخضع لها الجميع على السواء، بلا تفرقة بينهم أو تمييز لأحدهم على الآخر. (جلسة 28/ 5/ 2008 الدعوى رقم 5 لسنة 2008 دستوري).
ومن المقرر في أحكام القضاء الدستوري في مصر بأن مناط دستورية أي تنظيم تشريعي ألا تنفصل نصوصه أو تتخلف عن أهدافها، فإذا قام التماثل في المراكز القانونية التي تنتظم بعض فئات المواطنين، وتساوى بالتالي في العناصر التي تكونها، استوجب ذلك وحدة القاعدة القانونية التي ينبغي أن تنظمهم. (جلسة 6/ 5/ 2000 ق193 لسنة 19 قضائية دستورية).
وإن ما يصون مبدأ المساواة ولا ينتقص منه هو ذلك التنظيم الذي ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها بالأغراض المشروعة التي يتوخاها، وأنه إذا قام الدليل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها كان التمييز بين المراكز القانونية للمواطنين انفلاتا لا تبصر فيه.
(المحكمة الدستورية في مصر القضية رقم (74) لسنة 17 قضائية دستورية جلسة 4/ 1/1997).
الخطاب السياسي ومسؤولياته
إن تجريف منابع العمل، وقيم التكافل الاجتماعي، الذي يقوم عليه نظام التأمينات الاجتماعية، وإفراغه من مضمونه ومحتواه بالتقاعد المبكر تقع مسؤولياته وتبعاته على الخطاب السياسي، ولم يتبق إلا المعاشات الاستثنائية التي أصبح الإسراف في استخدامها المسمار الأخير في صندوق نعش التأمينات الاجتماعية.