في حكم قضائي بارز، أكدت دائرة جنح التمييز اختصاص النيابة العامة بالتحقيق في جرائم العنف الأسري، وبعدم انعقاد الاختصاص إلى الإدارة العامة للتحقيقات، استناداً إلى ما نصت عليه أحكام قانون العنف الأسري.
وأضافت المحكمة، التي أصدرت حكمها برئاسة المستشار محمد الخلف وعضوية المستشارين عدنان الجاسر ووليد الكندري وعبدالله الجمهور وأحمد الذويخ، أن القانون لم يشترط لتطبيق أحكامه استمرار الارتباط الأسري، وأن المحكمة الجزائية ملزمة في التحرز بتفسير القوانين الجزائية، والتزام جانب الدقة، وعدم تحميل عباراتها فوق ما تحتمل، وأنه متى ما كانت عبارة القانون واضحة لا لبس فيها، فإنه يجب أن تُعد تعبيراً صادقاً عن إرادة الشارع، ولا يجوز الانحراف عنها عن طريق التفسير أو التأويل.
وكانت النيابة العامة أسندت إلى المتهم، أنه أحدث عمداً بالمجني عليها الإصابات الموصوفة بالتقرير الطبي الأولي، وكان ذلك على نحو محسوس على النحو المبين بالتحقيقات، وطلبت عقابه وفقاً لنص المادة 160 من قانون الجزاء والمواد 1/1-أ، 2,22 من القانون رقم 16 لسنة 2020 بشأن الحماية من العنف الأسري، فأصدرت محكمة الجنح حكماً غيابياً بالغرامة بقيمة مئة دينار، فعارض المتهم، وتم الرفض، فطعن على الحكم هو والنيابة أمام محكمة الجنح المستأنفة، التي قضت بعدم قبول الدعوى الجزائية بشأنها.
وإذ لم يلقَ ذلك القضاء القبول لدى النيابة العامة، فطعنت عليه «التمييز» بموجب عريضة، وأودعت مذكرة بأسباب طعنها بذات التاريخ، وإذ أحيل الطعن إلى هذه المحكمة التي نظرته على النحو المبين بمحاضر الجلسات.
وقالت دائرة جنح التمييز، في حيثيات حكمها، إن ما تنعاه النيابة العامة على الحكم المطعون فيه بالخطأ في تطبيق القانون، ذلك أنه اشترط لتطبيق أحكام قانون الحماية من العنف الأسري أن يكون سلوك الجاني في الاعتداء على المجني عليه مستمراً، وهو ما لم يتطلبه القانون، ولم يرد به مما يعيبه ويستوجب تمييزه.
ولفتت المحكمة إلى أنه لما كان من المقرر وفق نص المادة التعريفية الأولى من القانون رقم 16 لسنة 2020 بشأن الحماية من العنف الأسري، أنه يكون للكلمات والعبارات التالية حيثما وردت في هذا القانون المعني المبين قرين كل منها ما لم يدل سياق النص على غير ذلك:
1 - الأسرة، وتشمل: الزوج وزوجة بعقد رسمي، وأبناءهما وأحفادهما. 2 - العنف الأسري: كل شكل من أشكال المعاملة الجسدية أو النفسية أو الجنسية أو المالية، سواء أكانت فعلاً أم امتناعاً عن فعل، أم تهديداً بهما يرتكب من أحد أفراد الأسرة ضد فرد أو أكثر منها، متجاوزاً ما له من مسؤولية قانونية، وفق الأفعال أو الجرائم المنصوص عليها في التشريعات الوطنية كافة... 3 - (جهة التحقيق المختصة النيابة العامة...)، والمادة رقم (8): (لكل من تعرض لعنف من قبل أحد أفراد أسرته تقديم بلاغ إما إلى الإدارة المعنية أو لجهة التحقيق المختصة...)، وكذلك المادة رقم (9): (تحرك الدعوى في جرائم العنف الأسري بناء على بلاغ من أي شخص أو جهة، ومع ذلك يجوز للمعتدي عليه أن يوقف سير الإجراءات في الدعوى في أي حالة كانت عليها قبل صدور الحكم).
وبينت المحكمة أن المادة رقم 22 تنص على أنه: «تختص النيابة العامة بالتحقيق والتصرف والادعاء في جميع الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون». كما أشارت المذكرة الإيضاحية لذات القانون إلى أن العنف سلوك مشين ومنبوذ في المجتمع، لاقترانه بالقوة المفرطة والإيذاء الجسدي والنفسي للأشخاص.
وأوضحت المحكمة أنه من جماع ما تقدم، فقد خلت نصوص القانون رقم 16 لسنة 2020 بشأن الحماية من العنف الأسري من وجوب توافر شرط نمطي، هو الاستمرار والتتابع الثابت لانطباق جرائم العنف الأسري على أي واقعة، وإذ كان من المقرر وفق قضاء هذه المحكمة أن الأصل أنه التحرز في تفسير القوانين الجزائية والتزام جانب الدقة ذلك، وعدم تحميل عباراتها فوق ما تحتمل، وأنه متى كانت عبارة القانون واضحة لا لبس فيها، فإنه يجب أن تعد تعبيراً صادقاً عن إرادة الشارع، ولا يجوز الانحراف عنها عن طريق التفسير أو التأويل.
وبينت المحكمة أنه مما مفاده أن المادة الأولى/ 2 من ذات القانون، السالف بيانه، قد عرفت العنف الأسري بأنه كل شكل من أشكال المعاملة الجسدية أو النفسية أو الجنسية أو المالية، ولم تشترط أن يقع ذلك الفعل بنمط مستمر أو متتابع، بل يقع ولو كان ذلك النشاط يأتيه الجاني لأول مرة.
وذكرت أنه لما كان ذلك، وكانت النيابة العامة أسندت إلى المطعون ضده تهمة الاعتداء على المجني عليها زوجته حكماً بسبب أنه طلقها طلقة رجعية، ولم تنتهِ عدتها - بالضرب، واحداث اصابتها الموصوفة بتقريرها الطبي الأولي وقيدها وفق جرائم قانون العنف الأسري، وهو الأمر الذي يعد وفق صحيح القانون، وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر وقضى بإلغاء حكم محكمة أول درجة، والقضاء بعدم قبول الدعوى الجزائية بشأنها تأسيساً على عدم توافر نمط الاستمرار في واقعة العنف الأسري الماثلة، ومن ثم فإنها تُعد جنحة اعتداء بالضرب عادية لا تختص بالتحقيق والتصرف والادعاء بها، وتكون بهذه المثابة من اختصاص الإدارة العامة للتحقيقات، فإنه يكون قد أخطأ في تطبيق القانون وفي تأويله، بما يستوجب تمييزه.
وأشارت المحكمة إلى أنه عن موضوع استئناف كل من النيابة العامة والمتهم، ولما كان من المقرر قانوناً وعلى ما جرى به نص المادة 18 من القانون رقم 40 لسنة 1972 بشأن حالات الطعن بالتمييز وإجراءاته أنه: «إذا حكمت محكمة التمييز بقبول الطعن، فعليها أن تقضي في موضوعه إلا إذا كان قاصراً على مسألة الاختصاص، فيقتصر الحكم على الفصل فيه، وعند الاقتضاء تعين المحكمة المختصة....».
وإذ كانت المحكمة قضت بتمييز الحكم المطعون فيه، والقاضي بإلغاء الحكم المستأنف، وبعدم قبول الدعوى الجزائية بشأنها، ولم تقضِ في موضوعها، ومن ثم يقتصر قضاء هذه المحكمة على الفصل في مسألة الاختصاص وصحته، وبما يتعيَّن معه، والحال كذلك، إعادة الاستئناف لمحكمة الجنح المستأنفة للفصل في موضوعه، على نحو ما سيرد في المنطوق، فلهذه الأسباب حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بتمييز الحكم المطعون فيه، وبإعادة الأوراق إلى محكمة الجنح المستأنفة، للفصل في موضوع الاستئناف.