خلال ساعات يغيب أثير راديو القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي. سي» بعد أكثر من 85 عاماً من البث بكل ما يحمله من حنين لدقات ساعة «بيغ بن» الافتتاحية الشهيرة «هنا لندن» التي نشأت أجيال عربية وترعرعت على موجاتها وكانت لهم أهم مصادر الخبر الدقيق والتحليل العميق.
وجاء قرار الهيئة أواخر سبتمبر الماضي بإغلاق الإذاعة العربية وإذاعات أخرى ضمن خطة «بي.بي.سي» للهيكلة نتيجة أزمة مالية ألغت بموجبها أيضاً مئات الوظائف في وقت تحتاج المؤسسة إلى توفير 28.5 مليون جنيه إسترليني من الموازنة السنوية التي تبلغ نصف مليار جنيه والتوجه صوب الإعلام الرقمي.
وتقول الهيئة إن معدلات التضخم والتكاليف المرتفعة دفعتها لاتخاذ «قرارات صعبة».
لكن القرار أثار ذهولاً كبيراً في الأوساط الإعلامية وتساؤلات عن مدى تأثير الإذاعات ومستقبلها وما إذا كانت الخطوة فعلاً لأسباب اقتصادية أم هي تغيير في التوجهات الإعلامية البريطانية خصوصاً بعد صعود روسيا والصين.
فالإذاعة البريطانية إحدى أعرق إذاعات العالم بدأ بثها عام 1920 من مصنع ماركوني بعبارة «This is London» وتحولت بعدها بعامين إلى شركة عامة ثم في 1926 أصبح مسماها هيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي.سي» كشبكة غير تجارية تعمل بمبدأ الخدمة العامة كما أرساه مديرها العام الأول اللورد ريث.
وفي عام 1932 ظهرت الخدمة الإنجليزية العالمية للمتحدثين بها في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية أما القسم العربي فهو أول الخدمات غير الناطقة بالإنجليزية وأسس رداً على «إذاعة باري» التي أطلقتها إيطاليا الفاشية للمنطقة العربية عام 1934.
ففي الثالث من يناير عام 1938 بدأ المذيع أحمد كمال سرور أول بث موجه لمنطقة الشرق الأدنى «هنا لندن.. سيداتي سادتي.. نحن نذيع اليوم من لندن باللغة العربية للمرة الأولى في التاريخ».
ومنذ ذلك الحين سطرت «بي.بي.سي» لنفسها تاريخاً ساحراً من الثقة والمصداقية والرصانة وارتبطت بوجدان المستمع العربي «من نواكشوط إلى الكويت» شاهدة على أحداث المنطقة فمن مبنى «بورتلاند بليس» إلى «بوش هاوس» عام 1940 ثم إلى «نيوز برود كاستينغ هاوس» المقابل له منذ 2012 كانت الـ«بي.بي.سي» بقيمها التحريرية وأصواتها اللامعة وصحفييها الأكفاء أهم مدرسة عرفها الإعلام العربي.
ولعلنا نتذكر الانعطاف المفاجئ للراحلة «مديحة المدفعي» وهي تقرأ نشرة الأخبار ظهيرة السادس من أكتوبر 1973 «سيداتي سادتي.. جاءني الآن هذا النبأ.. أن الجنود المصريين عبروا قناة السويس واجتازوا خط بارليف».
تُعد الخدمة العربية صاحبة نصيب الأسد في تمويل «محطات اللغات» الذي يأتي منحة من البرلمان البريطاني تديرها وزارة الخارجية والكومنولث أي هي جزء من الموازنة العامة بخلاف الخدمة الأم الموجهة للبريطانيين التي تأتي من رخصة التلفزيون وهي تبلغ حوالي 160 مليوناً جنيهاً سنوياً يدفعها كل منزل في بريطانيا للحصول على خدمات الـ«بي.بي.سي» ومن المعلوم أيضاً أن هذه الأخيرة لا تخضع لديوان المحاسبة المالية في بريطانيا.
لكن في عام 2014 كانت النقطة الفاصلة عندما تقرر وقف تمويل القسم العربي من الخارجية لينضم إلى باقي الأقسام في ضريبة التلفزيون بعد أن كان «جزيرة يأتيها تمويل خاص».
ويعتقد الصحفي المعتمد لدى البيت الأبيض الأمريكي ومراسل «بي.بي.سي» الأسبق في واشنطن عاطف عبدالجواد أن من بين الأسباب التي دعت لإغلاق الراديو العربي هي الأزمة المالية في بريطانيا التي تعتمد عليها «بي.بي.سي» خصوصاً أنها لا تقبل الإعلانات التي قد تشكل دخلاً.
ويقول عبدالجواد في اتصال هاتفي مع وكالة الأنباء الكويتية «كونا» إن «هذا القرار أثار الأسى في نفسي بسبب علاقتي الطويلة بالبي بي سي منذ عام 1977 عندما كنت أعمل في لندن أو عندما انتقلت إلى واشنطن».
ويروي واقعة مهمة من ذكرياته في الـ«بي.بي.سي» بأنه أول من أذاع نبأ الغزو العراقي الغاشم للكويت في العالم عام 1990 عندما جاءته «معلومات أكيدة» تفيد بتحرك القوات العراقية صوب الكويت وقرر إذاعة «النبأ» فوراً، ويُعلّق عبدالجواد «البي بي سي غرست لدي أسس المصداقية الصحفية التي اعتمدت عليها طول حياتي».
وفي عودة لأثير «بي.بي.سي» وعقب دقات «بيغ بن» على رأس الساعة يأتي المذيع ذو الصوت الرخيم محمود المسلمي «سيداتي وسادتي.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الواحدة تماماً في لندن بتوقيت غرينتش.. عالم الظهيرة».
يقول المسلمي لـ«كونا» «لا أنسى أنني أول من أذاع خبر ضرب مركز التجارة العالمي وحدث نقاش بغرفة الأخبار حول ترتيبه وكان الثاني لكن قبل أن تنتهي النشرة ضرب البرج الثاني وانقلبت النشرة وانقلب عالم الظهيرة وانقلب العالم».
وأعرب عن عميق الأسى لإغلاق إذاعة «بي.بي.سي»، لافتاً إلى دورها في إعادة صياغة الصحفي وصقله بمهارات الموضوعية والدقة وتوثيق المعلومة «ليس كلاماً مرسلاً أو زخرفة صوتية أو ضجيجاً».
ونبّه المسلمي إلى أن الـ«بي.بي.سي» تعتبر منطقة الخليج نقطة تركيز مهمة «فهي تراث وثقافة ممتدة»، لافتاً في هذا الشأن إلى برنامج «الخليج هذا الصباح» الذي أطلقته «بي.بي.سي» قبل سبع سنوات.
وأشار إلى «المكانة الخاصة» التي يحظى بها المستمعون بالكويت منوها بأن البث على موجات الـ«اف ام» بالكويت كان من أوائل الاتفاقات التي أبرمتها الهيئة بالإضافة إلى متابعته للشأن الكويتي من خلال فرق عمل كثيرة تزور الكويت لتغطية الانتخابات والفعاليات الثقافية وغيرها.
وأضاف «أنا تحديداً التقيت في الكويت خلال مهام التدريب بالكثير من مستمعي برنامجي «همزة وصل» و«رأي المستمع» ولديهم تسجيلات رائعة ونادرة».
أما صاحب الصوت المموج نور الدين زورقي فتحدث لـ«كونا» عن حزنه وحنينه للراديو رغم أنه الآن مذيع رئيس بتلفزيون «بي.بي.سي» وهو الذي سيغطي ساعة الإغلاق غداً.
وأبدى زورقي إعجابه بالكويت «التي لم تكن أبوابها أبداً موصدة أمامنا لأن تجربتها الديموقراطية المتقدمة خلقت بالضرورة مناخاً إعلامياً منفتحاً.. ولا أنسى رحلتي للكويت كنا نتحرك في تغطيتنا بمنتهى الحرية.. بلا قيود».
وأضاف «لست أنسى دورات تدريبية لزملائنا في إذاعة وتلفزيون الكويت تشاطرنا فيها الخبرات والمهارات»، منوهاً بأنه «في تاريخ القسم العربي بصمة كويتية تستحق أن نتذكرها منهم الزميل العزيز يوسف مصطفى الذي طالما قدم النشرات من لندن واستفدنا من خبرته بالشأن الخليجي في جولاتنا الإخبارية خلال فترات انتدابه للعمل في القسم العربي».
وبصوته الشجي «محمد العجمي بي بي سي..الكويت» كان أشهر مراسلي الإذاعة البريطانية بمنطقة الخليج يختتم تقاريره على مدار سنوات وروى لـ«كونا» أبرز الأحداث التي غطاها كإطلاق العراق صواريخ سكود باتجاه الكويت في 2003، قائلاً «كنت أول من نقل هذا النبأ وسبقنا به جميع وكالات العالم».
وقال إن «قرار إغلاق الإذاعة كان له وقع كبير في نفسي.. هي أصبحت جزءاً من عائلتي».
ويطرح إغلاق راديو البي بي سي تساؤلات عميقة عن إحدى أوائل وسائل الإعلام في مشهد عالمي غيرت به التكنولوجيا الكثير وبات فيه البث الرقمي تحديثا لوسائل الإعلام التقليدية.
لكن في المقابل تؤكد مؤشرات الاستماع للاذاعة البريطانية أن الراديو لا يزال محتفظاً ببريقه ويتحدى الزمن بتطوره فالملايين في العالم لا يزالون يستمعون للموسيقى والأخبار من خلاله وهو الوسيلة المثلى والبسيطة في البقاع القروية والنائية وهو أيضاً الوسيلة الإعلامية الأساسية للملايين وهم يقودون سياراتهم بالإضافة إلى أن التحول إلى البث الرقمي يواجه تحديات كبيرة في كثير من دول المنطقة كضعف الإنترنت كما أن البودكاست لم يترسخ بعد كثقافة عربية.
ويرى أحمد الشيخ وهو صحفي سابق في الـ«بي.بي.سي» وخبير في الإعلام الرقمي أنه لا يمكن تعميم تحول البث من الراديو إلى الإنترنت لأن المعيار لا يتعلق فقط بالتكنولوجيا بقدر ما يتعلق بتفضيلات المستمع ومواقعه وإمكاناته.
وقال الشيخ لـ«كونا» إن «تحديد مصير الإذاعة يجب أن يكون قائماً على دراسة الجمهور وتوزيعه الجغرافي وسلوكه وقدرته على الوصول».
وعلى جدار مبنى الـ«إن. بي.إتش» توجد عبارة مقتبسة من كتاب «الطريق إلى رصيف ويغان» لصحفي الـ«بي.بي.سي» والأديب البريطاني الشهير جورج أوريل قرب تمثال له أمام مقر الهيئة ترجمتها بالعربية «إن كان للحرية معنى فهو الحق في أن نقول للناس ما لا يودون سماعه».
ومع ذلك يبدو أننا لن نسمع «صوت لندن» بعد الواحدة من ظهيرة غد الجمعة بتوقيت غرينتش عندما يغادر الأثير إلى الأبد.