يمكن قراءة الواقع الحالي ل«دافوس» في ضوء هذا المشهد الهزلي من الفيلم البريطاني الساخر والمثير للجدل، الذي تم إنتاجه عام 1979، لفرقة مونتي بايثون «حياة براين»، وتحديداً في اليوم الأخير من التجمع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي «WEF»، الذي اختتم أعماله منذ أيام، حين ظهر نشطاء المناخ مجددا في منتجع التزلج السويسري، منددين «إن عدم اتخاذ أغنى وأقوى الناس في العالم، الذين انضموا إلى المنتدى الاقتصادي العالمي، خطوات ملموسة في مواجهة الأزمة البيئية الملحّة مخيب للآمال، ولن نظل صامتين حتى تتخذ الحكومات إجراءات بشأن أزمة المناخ».
لا يدري هؤلاء المكافحون ضد الاضطهاد أو ضد الأغنياء أو ضد الحكومات أو ضد الواقع أنهم وهم يكافحون إنما يقدّمون أغلى الهدايا إلى من يكافحون ضدهم، ففي الوقت الذي من المفترض أن تنشغل النخبة الاقتصادية العالمية بعدد من الملفات الحرجة على رأسها تضاعف معدلات التضخم التي وصلت إلى حدود 9 بالمئة بعد أن كانت 4.7 بالمئة 2021. وما قد يستتبعه من حدوث ركود اقتصادي عالمي، إضافة إلى تداعيات العملية العسكرية في شرق أوروبا وما لها من آثار وخيمة على الاقتصاد العالمي بشكل عام والاقتصادات النامية على وجه التحديد، يأتي ناشطو المناخ، هذه المرة، ليصرفوا الأضواء عن القضايا الأساسية التي لا تستطيع النخب الاقتصادية وصناع السياسات إيجاد حلول عاجلة لها، ويسلطوها على قضايا أقل أهمية، ويمهدوا ممراً آمناً للنخبة التي أدمنت إطلالاتها المثيرة، واستساغت الفشل، في كل مرة، فوق ذلك الجبل الساحر، وهي تقدّم التعهدات بتخفيف حدة التضخم العالمي والفقر الغذائي، بينما لم يتبق منها غير سمعة مهترئة وأيديولوجية منعزلة ونفوذ مترنح وإطلالات مثيرة... وكافيار!
أضف أن المنتدى، انطلق هذه المرة في ظل حتمية وجود نظام عالمي جديد، وفي خضم تحديات جمة يواجهها الاقتصاد العالمي، فانعقدت فعالياته تحت عنوان «التعاون في ظل عالم منقسم»، لمناقشة الانقسام العالمي الناجم عن الأزمات التي تواجهها الدول، بدءاً بالتغيرات المناخية، مروراً بتداعيات جائحة كورونا، وانتهاءً بتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية التي أسهمت مجتمعةً في عدة أزمات تمثَّلت في ارتفاع معدلات التضخم، وتكلفة المعيشة، وأصابت الاقتصاد العالمي بالركود.
وفي ظل ضبابية المستقبل واستمرار تحديات تحقيق الاستقرارالاقتصادي المفقود بفعل جائحة كورونا، وتصاعد نهج السياسات الحمائية بفعل الخلافات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ووقوع انقسام جيوسياسي عالمي من جراء استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية، يسعى قادة العالم، من خلال أجندة فعاليات المنتدى، لبحث حلول التقارب والتعاون لمواجهة تلك التحديات.
حتى أن التناقض بين أهداف وأفعال القادة والنخب المشاركة في المنتدى، فيما يتعلق ب «المناخ»، ظهر جلياً، حين وصل المشاركون إلى المنتدى باستخدام أكثر وسائل النقل غير المتكافئة والملوثة «الطائرات الخاصة»، إذ حلق أكثر من 1000 طائرة داخل وخارج المطارات القريبة من دافوس خلال أيام الاجتماع.
كل هذه التناقضات والتحديات والاهتراء والانعزال والترنّح، ليس في «دافوس» فقط، لكن في التجربة الرأسمالية برمّتها، ربما هو المبرر، ليس لوجود هؤلاء الناشطين، وغيرهم من المكافحين ضد الاضطهاد، على بعد خطوات من مكان انعقاد المؤتمر متى ما انعقد، حتى أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من فعالياته، وإنما هو ما فرض ضرورة غربلة التجربة الرأسمالية وما مرت به من مراحل، لتدارس تطوراتها وأزماتها على مر العقود الخمسة الأخيرة، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية الحالية.
ولذلك، فقد ظهر العديد من الأصوات المعارضة التي تصاعدت في دورات المنتدى السابقة، والتي كان آخرها، على سبيل المثال لا الحصر، خبير الاقتصاد التقدمي جوزيف ستيغليتز الفائز بجائزة نوبل، الذي قال: «إن هدف المنتدى الأصلي والمثالي يرتبط برأسمالية أصحاب المصلحة»، أو اعتبار المؤرخ الهولندي، روتغر بريغمان، «أن حضور منتدى دافوس أشبه بالمشاركة في مؤتمر عن رجال الإطفاء، لكن من دون السماح لأحد بالتكلم عن المياه»، أو التساؤل «المهين» لبيتر س. غودمان في مقاله «رجال دافوس... كيف التهم أصحاب المليارات العالم؟» الذي اعتبر فيه أن «أبناء دافوس» جزء من «فصيلة» مختلفة، وأن «رجل دافوس» كائن نادر ولافت: «إنه شخص مفترس لا يكف عن مهاجمة الآخر بلا رادع، ويحاول دوماً توسيع أراضيه والاستيلاء على قوت الآخرين، تزامناً مع حماية نفسه من الانتقام، عبر ادعاء صداقته مع الجميع».
الأمر لم يتوقف عند الهجوم على المنتدى الذي يمثّل الرأسمالية في أبهى صورها، بل ظهرت خلال العقود الفائتة، دعوات ومؤلفات، ليست لغربلة التجربة الرأسمالية فقط أو حتى إصلاحها، بل لإعادة النظر فيها مجملاً، وتبني نظم اقتصادية بديلة، كان آخرها ما قدمه الخبير الاقتصادي الراديكالي روبين هانيل، الذي كرّس حياته المهنية للتفكير في بدائل للرأسمالية وإحلال الديموقراطية، في كتابه الجديد «تخيُّل نموذج اقتصادي جديد بشكل جذري» الذي تبنى مفهومًا جديدًا عن الاقتصاد، يدعو إلى التخلص من النظم الاقتصادية القائمة، ولا سيما الرأسمالية، مع تجنّب العودة إلى النظم الاقتصادية القديمة، مثل الشيوعية، حيث يدعو في كتابه إلى اقتصاد يقوم على ما يصفه ب «الاشتراكية التحررية libertarian socialism».
المفارقة، أنه، اتساقاً مع ما سبق، وفي ظل حتمية وجود نظام عالمي جديد يميل شرقاً، أتى «دافوس» هذا العام، دون وجود من يمثّل هذا المعسكر تماماً، بعد أن غاب المليارديرات الروس والصينيون عن المحادثات السنوية للنخبة الرأسمالية، بينما مثل الأميركيون كالعادة أكبر مجموعة، إذ حضر منهم 33 مليارديراً أميركياً، بينما حضر من أوروبا 18 مليارديراً، وهو ما يعكس الاضطرابات العالمية التي أعادت تشكيل الثروات، وغيّرت مراكز القوى وسط الحرب والوباء وارتفاع التضخم.
في النهاية، يبقى مجتمع «دافوس» مشهداً هزلياً لواقع يحوي بين جلساته ومباحثاته أسباب فنائه، وتبقى سمعته المهترئة وأيديولوجيته المنعزلة ونفوذه المترنح تفرض حتمية وجود نظام عالمي جديد أكثر اهتماماً بالقضايا التي من المفترض أنه ينعقد لمعالجتها، ويبقى المكافحون يكافحون ضد الواقع.