حصة محمد صالح

نشر في 27-01-2023
آخر تحديث 26-01-2023 | 19:46
 د. محمد عبدالرحمن العقيل

هي أمي الغالية ربة المنزل، الطيبة المستورة، وأول مدْرَسة في حياتي، وهي التي أفنت حياتها لتربية أبنائها وأحفادها، فكانت أمومتها أصيلة، لم تتعكر بزحمة الحياة المدنية والوظيفية.

إن الأم هي أغلى ما يملكه الإنسان، وإن فقدها يعني فقد كل مشاعر جميلة حقيقية، فلا يوجد أصدق من حبها في العالم، ولا أصدق من اهتمامها، فهي الوفاء والعطاء والتضحية، لأنها الوحيدة في هذا الكون التي تعطي بلا مقابل، وتحب بلا مصلحة، وتضحي بلا سبب، فقط لأنها أم.

مرضت أمي مرض الموت، وعجز الطب عن شفائها، وكنا نريدها أن تقاوم هذا المرض المميت، لكي لا ننحرم منها، وكانت حبيبتي الغالية تتعذب من شدة الآلام والأوجاع، فكانت تصارع أعتى وأشرس الأمراض، لأنها كانت ترى في أعيننا كيف كنا متعلقين بها، فكانت تتحمل كل هذا الكرب، لتبقى معنا وقتا أطول.

جاءني خبر وفاة أمي وأنا أقود السيارة ليلا متوجها نحو المستشفى، فتمالكت نفسي وتصبرت واحتسبت.

ولا أخفي عليكم بأنني رجل أسيف، وسريع الانفعال، أضحك بسهولة وأبكي بسهولة، تدمع عيني لمصائب غيري، فكيف بمصيبتي! فيا ترى، كيف سأتمالك نفسي من رؤية أمي ومنبع الحنان وقت باتت جسدا بلا روح؟!

كنت أحاول أن أجمع شتات نفسي، وأتقوى بالصبر، حتى لا أنهار أمام أي أحد، فهذا لن ينفعني، ولن ينفع الفقيدة، وأحمد الله أن ألهمني الدعاء بقوله: «رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا»، فزاد صبري وثبتت قدمي، ونَبّهتُ نفسي قبلها على ألا يسرح خيالي في تصور الأوصاف الوداعية، التي تزيد المحزون همّا وألما، وعاهدت نفسي ألا أُخرج حزني دفعة واحدة في لحظات الوداع الأخيرة، وأن أُنفّس عن حزني بتدرّج فيما بقي من عمري، لتبقى ذكراها ملتهبة في نفسي أطول وقت ممكن، وكي لا ينقطع وفائي لها بالدعاء والاستغفار، وحتى أتقوى لمسيرة البِر الأخرى، التي لا رياء فيها ولا ثناء.

إن أكثر ما هوّن عليّ مصابي عند رؤية الفقيدة الغالية هو ابتسامتها المستبشرة، وكأنها كانت ترى ملائكة الرحمة بيدهم أكفان الجنة وحنوطها، وكأنها تقول لنا: «يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ»، فقد استراحت من ضيق الدنيا، ومن مقبرة العناية المركزة.

رحلت أمي بابتسامة مشرقة وسلام، ولم تكن ثقيلة على أحد، فقد كانت تدعو وهي بصحتها أن تموت شهيدة وألا تصل إلى أرذل العمر، فلم تصل إلى أرذل العمر، وماتت مبطونة، وأرجو الله أن تكون شهيدة، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ: المَطعُونُ، وَالمبْطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحبُ الهَدْم وَالشَّهيدُ في سبيل اللَّه».

في حياة أمي كنت أتكاسل عن زيارتها في بعض الأيام، والآن أتمنى أن أراها ولو لِلَحظة في المنام.

back to top