انفجار مرفأ بيروت... كف يد القاضي والسياسي
لم يقتصر وهج انفجار مرفأ بيروت على تسليط الضوء على النتائج الوخيمة والدموية للترهل الإداري والفساد الوظيفي والإهمال المحصّن من أي محاسبة، بل كشف حقيقة كثير من الأطراف السياسية اللبنانية وعرّاهم من أوراق التوت الطائفية والشعبوية التي غطت فجور نواياهم ووقاحة تصرفاتهم وخطايا ممارساتهم.
في خطوة لافتة، وبعد توقف أكثر من سنة عن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت بسبب طلبات الرد «كف اليد» المرفوعة ضده من سياسيين لاحقهم قضائياً، قرّر القاضي طارق بيطار استئناف عمله متسلحاً بمذكرة قانونية تحمل في طياتها اجتهاداً جريئاً يجعل المحقق العدلي الذي يتولى التحقيق في الدعاوى المحالة إلى المجلس العدلي سلطة قوية ومستقلة تمام الاستقلال عن أرفع المرجعيات القضائية والسياسية.
ومن ثم أتبع عودته الجريئة بقرار إخلاء سبيل خمسة من الموقوفين غير الأساسيين في الملف، والادعاء على ثمانية أشخاص جدد من كبار القضاة وقادة الأجهزة الأمنية يضافون إلى رئيس الحكومة السابق وبعض النواب الحاليين الذين سبق أن استدعاهم للتحقيق، مما أثار ردود فعل ترجمت سياسياً بغضب عارم من الفريق الذي يعدّ نفسه مستهدفاً في تحقيقات المرفأ، وعبّر عنها قضائياً بكتاب شديد اللهجة وجهه مدعي عام التمييز للقاضي بيطار مذكراً إياه بـ«كف يده» عن الملف، الأمر الذي اختتم بتعميم من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي إلى كل الأجهزة الأمنية بعدم تنفيذ أي قرار أو إشارة تصدر عن القاضي المذكور.
كأي حدث كبير أو حتى صغير وتافه في لبنان، هيمنت التدخلات السياسية على ملف المرفأ منذ لحظة انفجاره حتى اللحظة، فأطبقت القبضة السياسية على رقبة القضاء الذي من المفترض والواجب أن يكشف حقيقة ثاني أكبر انفجار غير نووي في العالم، الأمر الذي يطرح عدة استفهامات حول مصدر المواد المتفجرة وعلاقة السياسيين والقوى النافذة بها؟ وحول التبعة المعنوية والإدارية للقيمين على المرفأ والمسؤولين والقضاة والعسكريين الذين كانوا يعلمون بوجود هذه المواد الخطيرة دون اتخاذ أي إجراء فاعل لدفع الخطر المحدق؟!
فقد كان- ولا يزال- انفجار مرفأ بيروت وضحاياه ممن فقدوا حيواتهم أو جزءاً من أجسادهم أو ممتلكاتهم ساحة للتجاذب السياسي والصراع القضائي، الأمر الذي بدأ بخطابات التعاطف الشعبوية ذات الطابع الطائفي في غالبها، ولم ينته عند التنحية القصرية للقاضي فادي صوّان الذي كلّف بالتحقيق قبل القاضي بيطار الصامد أمام كل الضغوط السياسية والقضائية، مروراً بتبرئة الكيان الإسرائيلي بخطاب سياسي لا مسلك قضائي، ومن ثم تهديد القضاة من داخل أروقة قصر العدل، دون أن ننسى حفلات التكاذب في استجداء العدالة للموقوفين «ظلماً» أو للضحايا المقبورين قهراً ولذويهم الحيين حزناً والذين تدخلت السياسة أيضاً لزعزعة أواصر اللجنة التي جمعتهم تحت عنوان المطالبة بحقوق أحبائهم.
***على أثر الهرج والمرج الذي شهده اجتماع لجنة الإدارة والعدل في المجلس النيابي بسبب تبلغ النائب غازي زعيتر استدعاءه للتحقيق لصقاً على باب منزله، خرج النائب مروان حمادة مستنكراً ومصرّحاً بأنه ازداد قناعة بأنه وفريقه السياسي أحسنوا فعلاً بلجوئهم في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري وسلسلة الانفجارات ذات الصلة الى القضاء الدولي!
وهذا ما يدّلل على الحجم الكبير والواضح للتدخل السياسي في القضاء اللبناني، ويبرز معرفة أهل السياسة بخفايا أمورهم وخبايا سيطرتهم على مفاصل الدولة إدارياً وأمنياً وقضائياً وبالطبع اقتصادياً ومالياً، وهذا ما قد يفهم معه عدم استكانة لجنة أهالي ضحايا مرفأ بيروت للمصير المؤلم والتعاون مع بعض المنظمات والمؤسسات الحقوقية المختصة لمناشدة أعضاء مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إرسال بعثة مستقلة لتقصي الحقائق في الانفجار لتحدد أسبابه ومسؤولية الدولة والأفراد وتدعم تحقيق العدالة للضحايا.
***لا شك أن جرأة القاضي بيطار بالادعاء على كبار السياسيين والأمنيين والقضاة تعود بشكل أكيد الى طباعه المعروفة ومسلكه القضائي الذي لم يستطع أي ممن اختصموه في السياسة أن يشكك فيه أو أن يطول صاحبه بأي ممسك، لكنها أيضاً تعود الى ما ثبت في أذهان كثير من اللبنانيين بعد انتفاضة «17 تشرين» الشعبية من كسر حاجز الخوف والتصدي للزعيم وعدم الاستسلام لظاهرة تقديس المقامات.
الجرأة ليست كافية وحدها لحماية صاحبها من أي خطر على حياته أو مستقبله، بل تحتاج الى دعم وتكاتف وتأييد موضوعي، فالحق دربه صعب ومحفوف بالعراقيل والأهوال، وقد قيل إن هناك ساعة حرجة يبلغ الباطل فيها ذروة قوته ويبلغ الحق فيها أقصى محنته، والثبات في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول، فإذا ثبت أهل الحق تحول كل شيء عندها لمصلحتهم، وهنا يبدأ الحق طريقه صاعداً ويبدأ الباطل طريقه نازلاً، فللبحر مد وجزر، وللقمر نقص وكمال، وللزمن صيف وشتاء، أما الحق فلا يحول، ولا يزول، ولا يتغير.
***لم يقتصر وهج انفجار مرفأ بيروت على تسليط الضوء على النتائج الوخيمة والدموية للترهل الإداري والفساد الوظيفي والإهمال المحصّن من أي محاسبة، بل كشف حقيقة كثير من الأطراف السياسية اللبنانية وعراهم من أوراق التوت الطائفية والشعبوية التي غطت فجور نواياهم ووقاحة تصرفاتهم وخطايا ممارساتهم.
فمن كانت الحرب أداته للوصول الى السلطة، وكانت سرقة المال العام وسيلته لتجميع الثروات، وكانت المحاصصة مطيّة لكسب الولاءات، وكانت الطائفية حصانه الرابح للتربع على عرش الزعامة والتوريث السياسي، فلن نستغرب استخدامه كفّ السياسة لـ«كف يد» القضاء عن ممارسة دوره الطبيعي لإظهار الحقيقة وتكريس العدالة والكشف عن الأسباب والمتورطين بانفجار العصر.
* كاتب ومستشار قانوني.
ومن ثم أتبع عودته الجريئة بقرار إخلاء سبيل خمسة من الموقوفين غير الأساسيين في الملف، والادعاء على ثمانية أشخاص جدد من كبار القضاة وقادة الأجهزة الأمنية يضافون إلى رئيس الحكومة السابق وبعض النواب الحاليين الذين سبق أن استدعاهم للتحقيق، مما أثار ردود فعل ترجمت سياسياً بغضب عارم من الفريق الذي يعدّ نفسه مستهدفاً في تحقيقات المرفأ، وعبّر عنها قضائياً بكتاب شديد اللهجة وجهه مدعي عام التمييز للقاضي بيطار مذكراً إياه بـ«كف يده» عن الملف، الأمر الذي اختتم بتعميم من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي إلى كل الأجهزة الأمنية بعدم تنفيذ أي قرار أو إشارة تصدر عن القاضي المذكور.
كأي حدث كبير أو حتى صغير وتافه في لبنان، هيمنت التدخلات السياسية على ملف المرفأ منذ لحظة انفجاره حتى اللحظة، فأطبقت القبضة السياسية على رقبة القضاء الذي من المفترض والواجب أن يكشف حقيقة ثاني أكبر انفجار غير نووي في العالم، الأمر الذي يطرح عدة استفهامات حول مصدر المواد المتفجرة وعلاقة السياسيين والقوى النافذة بها؟ وحول التبعة المعنوية والإدارية للقيمين على المرفأ والمسؤولين والقضاة والعسكريين الذين كانوا يعلمون بوجود هذه المواد الخطيرة دون اتخاذ أي إجراء فاعل لدفع الخطر المحدق؟!
فقد كان- ولا يزال- انفجار مرفأ بيروت وضحاياه ممن فقدوا حيواتهم أو جزءاً من أجسادهم أو ممتلكاتهم ساحة للتجاذب السياسي والصراع القضائي، الأمر الذي بدأ بخطابات التعاطف الشعبوية ذات الطابع الطائفي في غالبها، ولم ينته عند التنحية القصرية للقاضي فادي صوّان الذي كلّف بالتحقيق قبل القاضي بيطار الصامد أمام كل الضغوط السياسية والقضائية، مروراً بتبرئة الكيان الإسرائيلي بخطاب سياسي لا مسلك قضائي، ومن ثم تهديد القضاة من داخل أروقة قصر العدل، دون أن ننسى حفلات التكاذب في استجداء العدالة للموقوفين «ظلماً» أو للضحايا المقبورين قهراً ولذويهم الحيين حزناً والذين تدخلت السياسة أيضاً لزعزعة أواصر اللجنة التي جمعتهم تحت عنوان المطالبة بحقوق أحبائهم.
***على أثر الهرج والمرج الذي شهده اجتماع لجنة الإدارة والعدل في المجلس النيابي بسبب تبلغ النائب غازي زعيتر استدعاءه للتحقيق لصقاً على باب منزله، خرج النائب مروان حمادة مستنكراً ومصرّحاً بأنه ازداد قناعة بأنه وفريقه السياسي أحسنوا فعلاً بلجوئهم في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري وسلسلة الانفجارات ذات الصلة الى القضاء الدولي!
وهذا ما يدّلل على الحجم الكبير والواضح للتدخل السياسي في القضاء اللبناني، ويبرز معرفة أهل السياسة بخفايا أمورهم وخبايا سيطرتهم على مفاصل الدولة إدارياً وأمنياً وقضائياً وبالطبع اقتصادياً ومالياً، وهذا ما قد يفهم معه عدم استكانة لجنة أهالي ضحايا مرفأ بيروت للمصير المؤلم والتعاون مع بعض المنظمات والمؤسسات الحقوقية المختصة لمناشدة أعضاء مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إرسال بعثة مستقلة لتقصي الحقائق في الانفجار لتحدد أسبابه ومسؤولية الدولة والأفراد وتدعم تحقيق العدالة للضحايا.
***لا شك أن جرأة القاضي بيطار بالادعاء على كبار السياسيين والأمنيين والقضاة تعود بشكل أكيد الى طباعه المعروفة ومسلكه القضائي الذي لم يستطع أي ممن اختصموه في السياسة أن يشكك فيه أو أن يطول صاحبه بأي ممسك، لكنها أيضاً تعود الى ما ثبت في أذهان كثير من اللبنانيين بعد انتفاضة «17 تشرين» الشعبية من كسر حاجز الخوف والتصدي للزعيم وعدم الاستسلام لظاهرة تقديس المقامات.
الجرأة ليست كافية وحدها لحماية صاحبها من أي خطر على حياته أو مستقبله، بل تحتاج الى دعم وتكاتف وتأييد موضوعي، فالحق دربه صعب ومحفوف بالعراقيل والأهوال، وقد قيل إن هناك ساعة حرجة يبلغ الباطل فيها ذروة قوته ويبلغ الحق فيها أقصى محنته، والثبات في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول، فإذا ثبت أهل الحق تحول كل شيء عندها لمصلحتهم، وهنا يبدأ الحق طريقه صاعداً ويبدأ الباطل طريقه نازلاً، فللبحر مد وجزر، وللقمر نقص وكمال، وللزمن صيف وشتاء، أما الحق فلا يحول، ولا يزول، ولا يتغير.
***لم يقتصر وهج انفجار مرفأ بيروت على تسليط الضوء على النتائج الوخيمة والدموية للترهل الإداري والفساد الوظيفي والإهمال المحصّن من أي محاسبة، بل كشف حقيقة كثير من الأطراف السياسية اللبنانية وعراهم من أوراق التوت الطائفية والشعبوية التي غطت فجور نواياهم ووقاحة تصرفاتهم وخطايا ممارساتهم.
فمن كانت الحرب أداته للوصول الى السلطة، وكانت سرقة المال العام وسيلته لتجميع الثروات، وكانت المحاصصة مطيّة لكسب الولاءات، وكانت الطائفية حصانه الرابح للتربع على عرش الزعامة والتوريث السياسي، فلن نستغرب استخدامه كفّ السياسة لـ«كف يد» القضاء عن ممارسة دوره الطبيعي لإظهار الحقيقة وتكريس العدالة والكشف عن الأسباب والمتورطين بانفجار العصر.
* كاتب ومستشار قانوني.