عند حافة النهر
جلست قريبة من ماء النهر أو البحر وكان صافيا كذاك اليوم الربيعي والسماء تزينها بعض الغيوم التي تنعكس على صفحة الماء ومن بعيد تجري السفن أو تبطئ في الحركة، وأخرى تتوقف بعض الوقت ربما لسرقة لحظة خاصة جداً.
تراءى لها ذاك البيت من جدارية محمود درويش:
«هذا البحر لي
هذا الهواء الرطب لي
واسمي- وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت- لي.
أما أنا- وقد امتلأتُ
بكُلِّ أسباب الرحيل-
فلستُ لي.
أنا لَستُ لي
أَنا لَستُ لي»
توقفت عن تذكر بقية القصيدة أو ربما نسيتها وعادت لفكرة الجلوس عند حافة النهر التي حولتها هي منذ أن سمعتها من أستاذها ذاك الذي رحل سريعا، وكان قد رسخ عندها بعض أفكاره مثل هذا المثل الصيني المعتق، كان يردده على مسامعها هو «الماوي» نسبة لأولئك المؤمنين بنظريات ماوتسي تونغ السياسية والاقتصادية، يردده عليها كلما طعنها أحدهم أو إحداهن في ظهرها وهم كثر!!! كان يقول لا تغضبي يا صغيرتي فحينها لم تكن قد تسلقت إلى العقد الثالث بعد، ابقي هناك عند حافة النهر وعندما كانت تقاطعه بين الغضب والضحك «ولكن لا نهر في بلادي» يكرر عند حافة الماء، وهكذا حوّر المثل الشائع ليعلم تلميذته أن الإساءة كما الحسنة لا بد أن تعود إلى صاحبها ولو بعد حين، وأن أجمل ما في البقاء عند حافة الماء هو أن ترى عدوك أو من أساء لك جثة طافية فوق سطحه!!!
لم تكن ترغب في رد الأذى بأذى شبيه، لم تكن تؤمن بالعداء للآخرين أو تخزين العداء، لكنها، مع الوقت وكثرة البشر الذين مروا في حياتها العملية أو العائلية أو الشخصية من صداقات وعلاقات، آمنت أنه من العدالة ألا يمر السيئون دون عقاب، فهم كمروجي المخدرات وغاسلي الأموال والقتلة والذين يحترفون التعذيب في السجون، جميعهم متشابهون في الظلم والسواد والأنانية والاحتقار للنفس البشرية، نعم قال لها أن من يقوم بمثل هذه الأفعال هو شخص «ناقص» هكذا أطلق عليه، ولم يكن بالطبع يقصد ناقص عقل ودين كما يقال ويشار للنساء في أوطاننا العريقة!!! بل كان يعني أن فيه ندبة نفسية عميقة، وكثير من الإحساس بالنقص الذي لا تعوضه شهادات الكون الجامعية ولا المناصب والمراكز ولا الجمال الخارق لدى النساء ولا شدة الإعجاب بهن وسحرهن لكثير من الرجال!!!
النقص هو ما يجعل البعض يتباهى ببضع كلمات حفظها في كتاب أو مقالة غبية من كاتب أكثر غباء لكنه مدع للعلم والمعرفة، والنقص أيضا لدى من كان فقيراً، رغم أن الفقر ليس بعيب إلا في مجتمعات تمجد الفاسدين وتقهر الفقراء وتحتقرهم، أو كما قال ميخائيل زادورنوف «إنه لأمر مقزز أن تعيش في بلد يخجل فيه المرء أنه فقير، لكن لا يخجل فيه المرء أن يكون وغداً»، هو الفقير الذي استغنى فتصور أن المحبة والعلم والاحترام تشترى بكثير من المال حتى لو كان مغمساً بعرق الفقراء وتعبهم.
عند حافة الماء وقفت طويلا بعده وكانت تقول لا بد أن يكون أستاذي محقاً، سيمرون من هنا جثة خلف الأخرى ملونين بملابسهم من تلك الماركات الفخمة أو حتى بكثير من مساحيق التجميل والبوتكس!!! لم يمر الكثير منهم أو منهن، ولم تشأ هي بعد أن كبرت وربما نضجت أكثر، بأن تراهم جثثاً طافية فوق سطح الماء الصافي، ربما لأنها تحب الماء في كل صوره نهراً أو بحراً أو محيطاً أو بحيرة أو حتى حفرة من بقايا المطر!! فلم تشأ أن تراه يلوث بكثير من فراغهم وحقدهم وغيرتهم أو حتى نقصهم الحاد الذي تحدث هو عنه طويلاً.
رددت سأبقى عند حافة الماء أراقب من بعيد النوارس التي ستبقى تحرسني والسفن الحاملة للعاشقين بعيدا عن أعينهم والحب الذي يضفيه هذا الماء حتى لمن لم يعشقه، سأبقى عند حافة النهر أو البحر أبحث عن فرصة جديدة للفرح وكثير من الحب والمحبة المعديين جداً رغما عنهم وعن كثير من نواقصهم، سأبقى أقرب للماء، وبالتأكيد هذا ما كان أستاذي يعنيه في عمق ما قال، وليس كما يقول المثل الصيني الذي تعلمه وحفظه بعد مشيته الفخورة بنيله لقب «ماوي»!!!
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية