في الآونة الأخيرة، تتناقل الألسن على الإنترنت عبارة «Tankeschön» (تورية على عبارة «شكرا جزيلا بالألمانية» لتصبح «شكرا جزيلا على الدبابات»، وتظهر العبارة على شعار يصور دبابة ألمانية من طراز بانزر ترفع علما أوكرانيا، فبعد مرور عام منذ اندلعت الحرب، تستعد ألمانيا على نحو مفاجئ لتسليم 14 دبابة من طراز Leopard 2 لأوكرانيا، حيث يشير القرار إلى انقلاب مذهل لمبدأ تحترمه ألمانيا على نحو أشبه بالوسواس القهري منذ أمد بعيد في سياستها الخارجية: الامتناع عن تقديم معدات هجومية لأوكرانيا، نحن الألمان لا نملك تَرَف إغضاب الروس.
في مستهل الأمر، اكتفت ألمانيا بإرسال الخوذات والدروع الشخصية الواقية للأوكرانيين الذين يقاتلون الغُزاة الروس، ومع تصاعد الضغوط من جانب حلفاء ألمانيا والأوكرانيين، بدأت بنود أكثر جدية تتقاطر رويدا رويدا: المدفعية، والصواريخ المضادة للدبابات المحمولة على الكتف، وناقلات الجنود المدرعة، والدبابات المضادة للطائرات، والصواريخ القصيرة المدى، لكن الدبابات القتالية كانت محظورة بشكل صارم، فباعتبارها أسلحة هجومية، من المفترض أنها تعرض ألمانيا لغضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعلى هذا فقد كانت «ممنوعة» لعام كامل، والآن ستدخل إلى أوكرانيا دبابات ألمانية الصنع.
تُرى ما السبب وراء هذا التحول المذهل؟ هل أدركت حكومة المستشار أولاف شولتز أخيرا أن ما أصبح على المحك أكثر من مجرد التزام أخلاقي تجاه ضحايا حرب الإبادة الجماعية في روسيا؟
الواقع أن وقف وعكس اتجاه تقدم روسيا نحو الغرب يشكل مصلحة استراتيجية جوهرية، فإذا انتصر بوتين في هذه الحرب، فإنه بهذا سيقوض نظاما أوروبيا ساريا منذ 77 عاما يقوم على ضبط النفس، والردع، وعدد كبير من المعاهدات ذات الطبيعة السِلمية، وسيتجرأ على محاولة تحقيق المزيد من المكاسب وترويع بقية أوروبا، فهكذا تفعل القوى الإمبريالية عندما تغويها أحلام العظمة.
من المؤسف أن هذا المنطق الجبري لا يحل أحجية العزيمة الألمانية الجديدة، كما أن ألمانيا لا تنبري لتحمل مسؤوليتها لمجرد كونها أغنى دولة في أوروبا وأكثرها سكانا، قد يتمثل تفسير أفضل في المساومة بين ضفتي الأطلسي واتباع «الزعيم الحقيقي»، الولايات المتحدة.
طوال أشهر، كان شولتز يحتمي وراء رفض الرئيس الأميركي جو بايدن إرسال الدبابة الأميركية M1A1 Abrams إلى المعركة، فكان شعار المستشار متمثلا في عبارة «لا تفعل ذلك بمفردك»، ولهذا، اندفعت المشاحنات خلف الكواليس، فإذا لم يذهب السيد «الكبير»، فلن تستفز ألمانيا قيصر روسيا في العصر الحديث.
في النهاية، رضخ بايدن، حتى برغم أن الدبابة أبرامز قد لا تكون مثالية للقتال في أوروبا الشرقية، ويُقال إنها أثقل من أن تناسب التضاريس الأوكرانية الرطبة اللينة، وإنها تتطلب عمليات إعادة إمداد معقدة فهي على سبيل المثال تعمل بوقود الطائرات لا الديزل، وأفراد صيانة على مستوى عال من التدريب.
لكن هذه أمور فنية مريحة يعشقها منتقدو الصفقة، فالمهم في الأمر حقا هو الرمزية، والالتزام من جانب الولايات المتحدة يطمئن ألمانيا، التي حاولت، منذ أطلق المستشار الألماني فيلي برانت في سبعينيات القرن العشرين سياسته الشرقية، وضع نفسها على جانب الكرملين الطيب، ولهذا السبب ظلت الحكومات الألمانية متمسكة بمشروع (نورد ستريم 2)، وهو خط الأنابيب الذي كان من المقرر أن يجلب الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا دون المرور بأوكرانيا وبولندا. (حتى اندلاع الحرب، كانت روسيا تمثل 55% من واردات ألمانيا من الغاز).
مع قدوم الدبابات الأميركية، تستطيع ألمانيا أن تجعل خطر الانتقام الروسي موزعا على نطاق أوسع، لكن لا ينبغي لنا أن نبالغ في القلق بشأن هذا الخطر، والواقع أن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف استخف بالقرار الأميركي، فالدبابات الأميركية والألمانية «مُبالَغ في تقدير قوتها بوضوح» وس«تحترق مثلها كمثل كل الدبابات الأخرى».
لذا، نجحت مناورة شولتز: «أنت تساعدني، وأنا سأساعد كييف»، إنه يحب الاقتباس من الفيلم الموسيقي الشهير من عام 1945 Carousel: «لن تسير وحدك أبدا»، وهذا هو المغزى الحقيقي من الاستراتيجية الألمانية المتواضعة، فالحملان مُحاطة الآن بآخرين، وخصوصاً أميركا الجبارة، ولا ينبغي لها أن تخاف من الذئاب، فالسلامة في العدد الكبير، ولا ينبغي لك أبدا أن ترعى وحدك.
أولئك الذين يتصورون أن ألمانيا ستتغلب أخيرا على غرائز القطيع يجب أن ينتظروا، فالأمة التي ذهبت إلى أبواب موسكو في الحرب العالمية الثانية أصبحت الآن وديعة كالهر المدلل، لقد ساعد تحولها بعد الحرب في تمكين السلام والازدهار لها وبقية أوروبا، التي لم تَعُد مهددة من الإمبريالية التوتونية، ولكن لماذا التخلي الآن عن «ثقافة التحفظ» الألمانية المستشهد بها كثيرا؟
الإجابة بسيطة: لقد تغير الواقع بوحشية عندما حاول بوتين الاستيلاء على كييف في فبراير الماضي، وهو يعد العدة الآن لتعزيزات هائلة لهجوم الربيع، وتسبب العدوان الروسي أيضا في تغيير اتجاه الرأي العام الألماني، وتفضل الغالبية نقل الأسلحة إلى أوكرانيا، وهذه أيضا حال الخُضر، شركاء ائتلاف شولتز، لقد تحول دُعاة السلام المخلصين بالأمس عمليا إلى حزب حرب، في إعادة صياغة عبارة صموئيل جونسون: «لا شيء يركز العقول أفضل من التهديد الوجودي».
لذا، ينبغي لنا أن ننسب الفضل لأهله، لقد تخلت ألمانيا عن مشروع (نورد ستريم 2)، وانضمت إلى عقوبات أشد قسوة ضد روسيا، وهي تتقدم بفارق كبير عن فرنسا في قائمة الدول التي تزود أوكرانيا بالمال والأسلحة، كما تعهدت بتقديم 100 مليار يورو (109 مليارات دولار أميركي) إضافية للقوات المسلحة الاتحادية الألمانية، الجيش الذي برع طوال ثلاثة عقود من الزمن في تقليص عدد الجنود العاملين والمعدات، فمنذ رحل آخر جندي روسي عن أوروبا الشرقية في عام 1994، تقلصت قوة الدبابات الألمانية من 3000 إلى أكثر من 300 بقليل.
مع ذلك، ستظل تجربة ألمانيا المباركة باعتبارها «قوة سلام» تثني البلاد عن التخلي عن استراتيجيتها العريقة، وكان من المريح للغاية الركض مع القطيع الذي تقوده وتحميه الولايات المتحدة، وفي دراما الدبابات، كان لزاما على الولايات المتحدة أن تتحرك أولا حتى يتسنى لألمانيا أن تحذو حذوها، ولم يعد كلاوزفيتز، الذي اشتهر بالدعوة إلى دمج الدبلوماسية والقوة، يعيش هنا الآن.
ليس من المهم كثيرا أن الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة يشكلان معا ثاني أكبر اقتصاد في العالَم، ويبلغ عدد سكانهما ثلاثة أضعاف عدد سكان روسيا، فلا يزال الدور الذي تضطلع به أميركا حاسما كأي وقت مضى، وعندما انتقد الرئيس باراك أوباما «رُكَّاب المجان» في أوروبا ووصف دونالد ترامب منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأنها «كيان عتيق مُهمَل»، من المؤكد أن بوتين دَوَّنَ بعض الملاحظات لكنه أخطأ في الحسابات بشدة، ففي عهد بايدن، عاد العمدة الأميركي إلى المدينة على رأس حشد غربي متوسع، حتى أن فنلندا والسويد المحايدتين منذ الأزل تندفعان الآن للالتحاق بعضوية الناتو.
إلى متى قد تدوم وحدة الحلفاء هذه إذا ظلت الحرب غير محسومة؟ هذه قضية أخرى. نحن نعرف فقط كيف تبدأ الحروب، وليس كيف تنتهي، وفي الوقت الحالي، دعونا نرفع القبعة لبايدن وشولتز، فقد كان كل منهما كارها لفكرة إرسال الدبابات، لكنهما توصلا إلى القرار الصحيح، نتمنى أن تصل الدرع الجديدة في الوقت المناسب قبل أن يشن بوتين هجوم الربيع.
* جوزيف جوفي عضو مجلس تحرير صحيفة Die Zeit، هو زميل مؤسسة هوفر ومدرس السياسة الدولية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة.