مع رفع البنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس بداية الشهر الجاري، كما كان متوقعاً على نطاق واسع، ليصل بذلك سعر الفائدة القياسي إلى نطاق من 4.50% إلى 4.75%، وضمن سلسلة من الارتفاعات ربما لن تتوقف خلال العام الحالي، ورغم ما أبداه المشرعون الأميركيون من بوادر تشير إلى أن أكبر تضخم تشهده البلاد منذ عقود قد بدأ ينحسر، فإن نبرة من اليأس بدت مسيطرة على تصريحات رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي نفسه جيروم باول، الذي استمسك بالآمال لكبح معدلات التضخم.

وأكد باول أن التضخم في أميركا لا يزال مرتفعاً، وفوق المعدل المستهدف البالغ 2%، مشدداً على أهمية أن «يبقى البنك المركزي الأميركي حذراً بشأن إعلان النصر» في معركته ضد التضخم.

Ad

وتعهد باول، في مؤتمر صحافي، عقب القرار بمزيد من الزيادات في أسعار الفائدة خلال الفترة المقبلة، من أجل السيطرة على التضخم وخفضه إلى المستوى المستهدف.

ورغم ترحيب باول بالتراجع الأخير في بيانات التضخم، فإنه قال إن ذلك ليس كافياً لإعادة مؤشر أسعار المستهلكين إلى 2%، مضيفاً أن «المركزي» الأميركي لم يصل بعد إلى معدلات فائدة كافية لكبح التضخم المرتفع، ولفت إلى أن الاقتصاد الأميركي تباطأ بشدة خلال العام الماضي، فيما يستمر تراجع إنفاق المستهلكين وكذلك نشاط الإسكان.

وتابع باول: «سنحتاج إلى مزيد من الأدلة وبشكل كبير» على أن التضخم ينحسر، للتأكد من أنه يتحرك مرة أخرى نحو الهدف، مشيراً إلى أن الاحتياطي الفدرالي يناقش زيادتين أخريين على أسعار الفائدة.

وأكد أن البنك المركزي يراقب الأوضاع المالية عن كثب وبعناية، مكرراً أنه من المهم أن تعكس الظروف المالية تشديد بنك الاحتياطي الفدرالي، ولفت إلى أن هناك اختلافاً في الرأي حول مدى سرعة انخفاض التضخم، معرباً عن أمله أن تعطي أرقام التضخم في الأشهر المقبلة دفعة إيجابية في المعنويات. حتى أن البنك المركزي، قال في بيان، يمثل إقراراً صريحاً بالتقدم الذي حدث في خفض وتيرة ارتفاع الأسعار التي بلغت العام الماضي أعلى مستوى في 40 عاماً: «التضخم تراجع إلى حد ما لكنه ما زال مرتفعاً».

ومن خلال زيادة تكاليف الاقتراض، يأمل بنك الاحتياطي الفدرالي تهدئة النشاط الاقتصادي، وتخفيف الضغوط التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، لكن المشرعين يخاطرون بالبدء في انكماش اقتصادي حاد في أكبر اقتصاد في العالم.

ربما تبرر هذه النبرة توقعات يونيو التي أظهرت ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية في اجتماع الاحتياطي الفدرالي الأخير منتصف ديسمبر 2022 بواقع 0.5 في المئة ليتراوح الآن بين 4.25 في المئة و4.5 في المئة، وهو أعلى معدل خلال 15 عاماً.

في موازاة ذلك، أظهرت توقعات المجلس أن سعر الفائدة الرئيسي للبنك قد يتعدى 5 في المئة سنويا من الآن، كما ارتفع عدد أعضاء لجنة السياسة النقدية الذين يتوقعون رفع الفائدة فى 2023 إلى 13 عضواً من مجلس السياسة المكون من 18 شخصاً مقارنة ب 7 أعضاء خلال الاجتماع السابق، في الوقت الذي لايزال فيه التضخم قريباً من أعلى مستوى له خلال 40 عاما، رغم انخفاضه منذ أن وصل إلى ذروة 9.1 في المئة في يونيو الماضي، مدعوما بانخفاض تكاليف الطاقة.

وبالإضافة إلى مشكلة التضخم، يواجه الاقتصاد العالمي مشاكل جيوسياسية أخرى كالحرب الدائرة في شرق أوروبا بين روسيا من جهة وأوكرانيا وحلفائها من جهة أخرى، وما يصاحبها من أزمات تتعلق بالسلع والأسعار، ما يضعنا أمام حقيقة أننا نواجه حقبة اقتصادية استثنائية، تستلزم حلولاً استثنائية، وليس فقط الحلول النمطية المقررة في مناهج وكتب الجامعات والمعاهد الاقتصادية.

وفي السياق، رأت بعض الآراء والتقارير دوراً فعالاً للتكنولوجيا في مكافحة التصخم، تحديداً فيما يتعلق بالتحول نحو الاقتصاد الرقمي في المؤسسات والحكومات واستخدامه في تقليص حلقات التداول داخل سلاسل الإمداد، بما يساعد في خفض تكلفة المنتج النهائي عبر إلغاء دور الوسطاء بشكل رئيسي، بما يؤدي في النهاية إلى زيادة الربحية للأطراف داخل السلسلة.

ربما يبدو هذا الطرح موضوعياً، فيما يتعلق بخفض تكلفة الإنتاج، ومن ثم خفض سعر المنتج النهائي، لكنه، رغم موضوعيته، يصطدم بواقعين، أولهما: ما يعانيه قطاع التكنولوجياً في ظل الحقبة محل التناول، الذي تعرضت شركاته لخسائر غير مسبوقة، بدأت بموجة تسريحات لم يشهدها القطاع من قبل، وانهارت العديد من أسهم شركات التكنولوجيا الكبرى مع نهاية العام الماضي، مع ظهور تراجع في الأرباح خلال العام كله، إذ كان أداء الأسهم العالية النمو (سابقاً) أقل بكثير من أداء السوق، أو حتى مقارنة بأدائها خلال الأعوام الماضية.

وفي الأثناء، باتت الحلقة الأضعف هي موظفو القطاع، إذ بدأت شركات التقنية الاستغناء عن الآلاف منهم، وبلغت تقديرات مستقلة للاستغناء عن العمالة في القطاع بنحو 250 ألف شخص حول العالم، ليكون 2022 هو العام الأكثر قسوة على موظفي التكنولوجيا. ومنذ منتصف نوفمبر الماضي وخلال أقل من 10 أيام فقط، جرى تسريح أكثر من 73 ألف موظف في قطاع التكنولوجيا الأميركي بالفعل.

أما فيما يتعلق بالتوقعات، فقد توقعت نشرات اقتصادية معتبرة، وبسبب مخاوف الركود الوشيك، انخفضت أرباح شركات التكنولوجيا العملاقة بنسبة 5 في المئة، وهي الخسائر التي ينتظر تفاقمها إلى 20 في المئة في الشركات التي تعتمد على أرباح الإعلانات عبر الإنترنت أو التجارة الإلكترونية اعتماداً أكبر.

أما الواقع الثاني: فهو ما يتعلق بالطرح نفسه، إذ ساهمت التكنولوجيا، بالفعل في تفاقم معدلات التضخم، وبما يتناقض مع موضوعية الطرح، إذ كان التضخم، قبل الأزمة، وكمؤشر عام يتحرك بشكل طبيعى، لكن الآن، بات للتقدم التكنولوجي قوة تأثير تضخمية تستحق التأمل، فمن ناحية، بات الحصول على المنتج أو الخدمة في ظل هذا التقدم أسهل وأسرع بشكل كبير مما شجع الاستهلاك، ومن ناحية أخرى، فقد ساهم هذا التقدم بشكل رئيسي في صنع نوع جديد من الاقتصاد، قلب موازين النقد في العالم، ولم يعد صياغة مفهوم الملكية والاستثمار، فقط، بل الأصول، للدرجة التي يبدد معها جهود صانعي السياسات النقدية في السيطرة على معدلات الإنفاق، ومن ثم معدلات التضخم، كالعملات الرقمية، على سبيل المثال، والتي تجاوز حجم سوقها 3 تريليونات دولار، قبل أن تتراجع خلال الانهيارات الأخيرة إلى نحو 900 مليار دولار، حسب بيانات شركة CoinGecko. أو سوق الرموز غير القابلة للاستبدال NFT، الذي رغم صعوبة تقدير حجم الأموال المتداولة فيه، فإن بعض التقديرات أشارت إلى أنها تجاوزت 40 مليار دولار بنهاية 2021، كما قدرت مؤسسات اقتصادية أن يتجاوز حجم تعاملاتها 400 مليار بحلول 2025.

كل ذلك بالإضافة إلى صناعة المحتوى الرقمي على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يصعب حصر حجم عوائدها المالية، إلا أن عدداً من المؤسسات قدرتها بملايين الدولارات، وآخرها تقرير صادر عن وكالة «بلومبرغ» الإخبارية، ذكرت فيه أن موقع «يوتيوب»، أحد الأذرع الإعلامية لشركة غوغل، دفع ما يزيد على 30 مليار دولار لصانعي المحتوى خلال السنوات الثلاث الماضية، من عوائد الإعلانات والترويج والخدمات الأخرى.

إذن، نحن أمام أرباح هائلة يحققها التقدم التكنولوجي والتحول الرقمي خارج القطاعات الاقتصادية الرسمية والتقليدية، تؤدي إلى تعظيم القوة الشرائية لعدد كبير من الأفراد، لا تعجز أمامها، فقط، هذا الطرح كأحد الحلول الاستثنائية لمكافحة التضخم، بل من الممكن أن تفاقم المشكلة، وتؤدي بالاقتصاد العالمي إلى تضخم أكثر جموحاً.