هنا والآن
تريد أن تخفف وتهرب من ضغط الحياة اليومية بالتزاماتها وهمومها اللامنتهية، هناك وصفة سحرية عند الفلسفات والمعتقدات الشرقية من الهند والصين واليابان وغيرها، هي فلسفة وتأمل أكثر من كونها ديناً. الوصفة تقول: أغمض عينيك أو افتحهما قليلاً وأغرق ذاتك بلحظة الحاضر في المكان، فكر بالعدم، ركز تفكيرك في سماع أنفاسك فقط. رياضة اليوجا والزن تقوم على فكر التخلص من عبء الدنيا والخلاص من أثقال الماضي وقلق الغد.
هل تستطيع ذلك كل الوقت؟ طبعاً لا، ومستحيل أن تكون في عالم غير دنيا الانشغال معظم الوقت، لكنك ولو للحظات تهرب من «ما يشغل حين تشغل نفسك بالانشغال»، تلك خبيصة عقلية منسوبة للروائي الشاعر تي. إس إليوت، صاحب قصيدة «الأرض اليباب». كيف يمكن أن تفلت من الذكريات إذا كنت من جيل الكهول والعجائز أو «بيبي بومرز» أي الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة والآن يتلاشون نحو عالم الأموات واحداً تلو الآخر؟
يقولون إن الشباب يتوجهون للمستقبل (ليس هذا صحيحاً في عالم الغرق الاستهلاكي الثقيل مثل حالتنا بدول الريع)، أما أهل الكهولة فليس لهم غير الماضي، يسمعون أغنية أجنبية مثل «أين ذهبت تلك الأيام يا صديقي؟»، أو«الأمس» لفرقة البيتلز، أو «الربيع» لفريد الأطرش، أو «بعيد عنك» لأم كلثوم، أو يبحثون عن خرائب لبيت طيني من أيام زمان مع أن دولتنا الأسمنتية سحقت معظم ما ينتمي لهذا الماضي، فيحنون ويأسون لماضٍ لن يعود، نوستولجيا أم لا؟ كلها ذكريات لا يملكون غيرها بهذا العمر الضائع.
كارل يونج عالم النفس الإشكالي في مفهوم العقل الباطن الجمعي يقول «قصة الحياة تبدأ عند النقطة التي يحدث فيها التذكر، فليس هناك غير جزر من الذكريات تطفو على بحر من الضباب، وكل ذكرى لها ارتباط بالأخرى»... وتعود للتذكر، وتغرق في الذكريات، كان بعضها جميلاً، وبعضها مر كئيب، ومهما كان الأمر، فالأمس أفضل من اليوم عندنا، بخلاف قصيدة للشاعر التركي ناظم حكمت، حين قال فيها إن غداً سيكون أجمل.
اسبح بعيداً عن موجة لحظات الحاضر العالية، أغمض عينيك ولا تفكر بأي أمر غير «هنا والآن» لتشرد رغماً عن أنفك مع أغنية فيروز «سألتك حبيبي لوين رايحين... خلينا خلينا وتسبقنا السنين»... سبقتنا السنون وليس لدينا «هنا والآن» غير «شوفة عيونكم» مع الجماعة.