لم يحمل مشروع الميزانية العامة للدولة السنة المالية 2023-2024 أي جديد على صعيد إصلاح المالية العامة، حتى مع محاولة «تضخيم» بند الإيرادات غير النفطية، بينما كشفت تفاصيل بنود المصروفات استفحال سياسات الإنفاق غير المستدامة عاماً تلو آخر، رغم مناقضتها لكل خطابات الإصلاح الاقتصادي الرسمية، وآخرها في شهر سبتمبر الماضي بتكليف مجلس الوزراء لوزير المالية تحديد سقف للإنفاق خلال السنوات الثلاث المقبلة، فجاءت الميزانية الجديدة الأعلى إنفاقاً بتاريخ الكويت بزيادة 2.755 مليار دينار عن سابقتها أي 11 في المئة ليتصاعد إجمالي مصروفات الميزانية إلى 26.278 ملياراً.
تبرير وبيان
وفيما برر بيان وزارة المالية ارتفاع المصروفات في عدد من البنود الاستثنائية غير المكررة، فإن تفاصيل العرض المرئي للوزارة بيّنت أن هذه البنود غير المكررة الخاصة باستحقاقات الطاقة بين وزارتي الكهرباء والنفط بقيمة 1.064 مليار دينار، مع احتمالية أن يكون جزء من هذا المبلغ متعلقاً ب «دعم وقود تشغيل المحطات ودعم المنتجات النفطية» مستمراً، وربما متعاظماً للسنوات القادمة، إلى جانب 481 مليون دينار لتغطية بدل بيع الإجازات وهو استحقاق غير ضروري من حيث المبدأ «يشكلان 45.5 في المئة من إجمالي أبرز البنود التي استعرضت الميزانية أوجه زيادة الإنفاق فيها والبالغة قيمتها 3.394 مليارات دينار».
أما بقية البنود، التي اختصت بالزيادة، فهي مصروفات جارية، ومعظمها قابل أو مؤكد التكرار كرصد 586 مليون دينار لتغطية أكثر من 21 ألف وظيفة جديدة أو401 مليون دينار وفقاً لمساهمة الدولة في اشتراكات التأمينات، علاوة على التزامات مستمرة بنحو 500 مليون دينار كدعومات للطلبة المبتعثين أو تكاليف الأدوية أو الإسكان أو التموين وغيرها.
بالأصل نفطية
وبينما ركز بيان وزارة المالية على زيادة قيمة بند الإيرادات غير النفطية من خلال تحويل أرباح الجهات المستقلة - لأول مرة - إلى الميزانية العامة للدولة بدلاً من الاحتياطي العام، فإن المطلع على أرباح هذه الجهات المستقلة يعلم أن نحو 80 في المئة من هذه الأرباح المقدرة قيمتها بالميزانية 1.773 مليار دينار، تأتي من مصادر نفطية عبر أرباح مؤسسة البترول عن نشاط واستثمارات شركاتها التابعة، التي بلغت في العامين الماضيين 1.2 مليار دينار، و1.5 مليار، على التوالي، قبل الاستقطاع (لصندوق الأجيال القادمة) البالغة نسبته 10 في المئة، بالتالي فإن الحديث عن تنمية الإيرادات غير النفطية غير دقيق إلى حد كبير، فحسب السنوات السابقة ستبلغ إيرادات «البترول» ما يوازي ثلث الإيرادات غير النفطية المقدرة عند 4 مليارات دينار.
وربما سيكون الأثر غير النفطي الملموس في الميزانية ناتجاً عن زيادة قيمة إيجارات القسائم الصناعية والخدمية من الهيئة العامة للصناعة، التي تم اعتمادها أخيراً مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك جهات مستقلة إيراداتها للخزانة العامة بالأصل محدودة أو معدومة كالصندوق الكويتي للتنمية، وبنك الائتمان، ومؤسسة الموانئ، والهيئة العامة للاتصالات ووحدة تنظيم التأمين.
استهلاك السيولة
وفي الحقيقة، فإن تمويل الميزانية من إيرادات الجهات المستقلة لا يعدو أن يكون إجراءً مشابهاً لتمويلها من الاحتياطي العام، الذي تم استهلاك السيولة النقدية فيه خلال السنوات من 2015 إلى 2019 لتغطية عجوزات الميزانية أكثر من كونها إيرادات غير نفطية يفترض أن تكون ناتجة من ضرائب مستدامة على الأعمال التجارية والاستثمارية في البلاد، مما يجعل الدولة ذات اهتمام بتطوير دائم لبيئة الأعمال كي تضمن تدفق الإيرادات الضريبية غير النفطية بشكل مستمر، وهو سلوك بالتبعية سيساهم في معالجة اختلالات اقتصادية أخرى، كسوق العمل أو رفع مستوى القطاع الخاص في الاقتصاد، كماً ونوعاً.
استفحال السياسات المنحرفة
وكان لافتاً في مشروع الميزانية أيضاً استفحال كل السياسات المالية المنحرفة عن أي توجه مستدام، ولو على المدى المتوسط، إذ ارتفعت مصروفات الرواتب والدعوم من 75 في المئة للعام الماضي إلى 80 في المئة من إجمالي المصروفات هذا العام، وانخفض الإنفاق الرأسمالي خلال نفس الفترة من 12 في المئة إلى 9 في المئة، في حين تصاعد سعر التعادل في الميزانية خلال عام بواقع 15.5 في المئة ليبلغ 92.9 دولاراً لبرميل النفط بالتوازي مع نمو كلفة إنتاج النفط في البلاد - دون بيان مبرراته - بواقع 22.6 في المئة وصولاً إلى 3.97 مليارات دينار، مما يعني أن زمن ارتفاعات النفط البسيطة، التي تنقل موازنة الدولة من العجز إلى الفائض لم يعد قائماً وأن تحقيق الفوائض المالية سيحتاج إلى ارتفاع أعلى ولمدة أطول في برميل النفط وسط مخاوف يتداولها العالم بشأن الركود الاقتصادي العالمي أو الطلب النفطي من الصين، وهو ما يزيد حتى من احتمالات تصاعد العجز المتوقع في الموازنة إلى أعلى مما رصد عند 5 مليارات دينار.
أين استقطاع الأجيال؟
بل حتى أن بند نسبة استقطاع 10 في المئة من إيرادات النفط لمصلحة صندوق احتياطي الأجيال القادمة المتوقف منذ ثلاث سنوات بسبب ظروف المالية العامة خلال جائحة كورونا تم إلغاؤه في الميزانية الجديدة، ولم يدرج حتى كبند صفري، ولم تبين وزارة المالية أسباب عدم إعادة تفعيله، رغم انتهاء الجائحة وتداعياتها على الأسواق والاقتصادات المختلفة في العالم، مما يعزز من مخاوف الارتفاع المستمر في الإنفاق، دون اتخاذ أي
إجراء احترازي ولو كان محدود الأثر يتعلق بتعزيز أوضاع الجهة الوحيدة في الكويت المعنية بالمستقبل وهو صندوق احتياطي الأجيال القادمة.
مع دخول العام التاسع من عجوزات الميزانية - بانتظار الحساب الختامي ل 2022-2023 - لا يبدو أن الإدارة المالية فهمت أياً من الدورس المستفادة، بل على العكس اتجهت في وقت ما إلى مزيد من الإنفاق المرتبط بنفاد الاحتياطيات وباتت اليوم تحاول تجميل الميزانيات من خلال تغطية حقيقة نمو المصروفات مع تغيير بنود محاسبة لرفع نسبة الإيرادات غير النفطية التي تستحق الكثير من الجهد والعمل لتحقيقها فعلياً من مصادر مالية مستدامة، وهو ما يبدو بعيداً عن السياسات المالية الحالية.