اليوم الأول يمر ببطء شديد لا شيء سوى أنين من هم تحت الأنقاض وصراخ وعويل، مع آخر النهار نتحسس الأخبار عن الأصدقاء والأحبة ونتفقدهم واحداً واحداً، ومع صباح اليوم الثاني كنا قد اطمأننا أن معظمهم بخير رغم أن الكلمة لا تصف الحالة، فكيف يكونون بخير وهم في العراء، وقد تهدمت بيوتهم وشردوا للمرة الخامسة أو السادسة أو العاشرة؟ ألم تصبح هذه حالة السوريين في كل مكان منذ سنين عدة؟ إلا هي لم نسمع لها صوتاً وبقي هاتفها لا يرد أو هو مغلق أو...
في البدء تعلقنا بحبال الأمل أو ربما عملنا على إقناع أنفسنا بأنها ستعيش هي من عرفت هموم الحياة وآلامها، وبين رسالة وأخرى نتسمر أمام محطات التلفزة ونتوقف عندما تأتي الأخبار من منطقتها في تركيا، نتساءل أي خبر من رئيفة؟ وفجأة يقال إن المبنى الذي تسكن فيه قد تهاوى لكننا رغم ذلك لم نفقد الأمل قلنا ستبقى وستقاوم حتى لو كانت تحت الأنقاض، أو ربما كانت خارج منزلها، كلها أحلام أو أماني من كثيرين أحبوها حتى خافوا أن يأتيهم الخبر المؤلم، ورفضوا إلا أن يقنعوا أنفسهم أو أنفسهن بأنها أقوى حتى من هزات الأرض وما فوقها.
قلت لهم ستقاوم هي وستتشبث بالحياة حت أردد تحلّوا بالصبر وانغمستُ في قراءات كثيرة عن الزلازل والناجين منها حتى صرتُ أبحث عن قصص من وجدوا أحياء تحت الركام بعد أيام طويلة، كلها محاولات ربما أو حتى أوهام أو بحث بين الركام عن فسحة للأمل!
في اليوم الثالث والرابع ربما لم أعد أتذكر توقفت عن العد وأحيانا عن تكرار السؤال الممل: هل من أخبار عن رئيفة ومنها؟ بدأ الأمل يضعف، قالها ذاك الصديق، لكني لم أشأ أن أكون بواقعيته، وبقيت أراقب المحطات والأخبار حتى سمعت مراسل تلك المحطة يقول سمع المسعفون صوت امرأة تستغيث من تحت أحد المباني، لم أعرف أي مبنى وفي أي مدينة، ولم تهمني التفاصيل، قلت في نفسي، في استمرار للبحث عن نفس ذاك الأمل: ستكون رئيفة هذا صوتها أكيد، وكدت أصرخ انبشوا الرمل بأظافركم لا بأيديكم، فهناك حيث هي ما يستحق الحياة والعيش.
لم يكن صوتها وبدأت كل الأصوات تضعف والصور لا تحمل سوى جثث في أكياس للموتى ومقابر... صفوف طويلة من القبور بشواهد بعضها صغير بحجم أجساد أطفال صغار وأخرى لنساء ورجال وشيوخ حتى احتضنتهم الأرض عندما دمرتهم الطبيعة أو حتى كثير من البشر!
في ذاك الصباح لا أعرف في أي يوم هو جاءت رسالة مختصرة جداً «ابن رئيفة دفنها اليوم»، تسمرت مع فنجان قهوة الصباح وأنا قبل قليل أمنّي النفس بلقائها، هناك حيث تقيم منذ سنين وكم وعدتها بأن أزورها.
بقي السواد يغلف كل الرسائل والمواقع في حين بحثت أنا عن صورتها وهي كما عهدتها تبتسم في أكثر الأوقات شدة وحزناً وصعوبة... تشبثت بابتسامتها بينما كل الصور لا تدعو إلا لمزيد من الدمع والبكاء، وتمنيت أن نكون كلنا أحبتها معها يوم تحتضنها الأرض التي عشقتها.
رحلت رئيفة إذاً دون وداع يليق بها، وتبقى ذكراها معنا في تفاصيل أيامنا الطويلة تلك في عواصم عدة مع نساء سوريات كزهر الأرض أو أكثر يعملن على زرع المحبة والسلام في حين الدمار والبؤس والتشرد تنال من كثيرين منهم ومنهن.
حتى الطبيعة في قسوتها عليهم سيست وتحولت إلى مادة هنا وهناك، في حين قوائم الموتى بأسماء الأحبة تطول وتطول والسحب السوداء تكسو الأجواء حتى تبدو خانقة... لك الحياة يا رئيفة.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.