في مناسبة شهيرة، حَذَّر فولتير من أن أي شخص قادر على حمل الناس على تصديق سخافات قد يجعلهم يرتكبون أفعالاً وحشية فظيعة، وبعد مرور قرنين ونصف القرن من الزمن، جاء التمرد في مبنى الكابيتول الأميركي من قِبَل أولئك الذين صدقوا أكاذيب دونالد ترامب ليؤكد وجهة نظر فولتير، والآن، تبذل الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب قصارى جهدها «لإغراق المنطقة» بمزيد من السخافات.
تتمثل البَيِّنة الأولى في «اللجنة الفرعية المختارة المعنية بمسألة استخدام الحكومة الفدرالية كسلاح» في مجلس النواب الجديد، والتي من المفترض أن تُظهِر كيف استخدم الحزب الديموقراطي الهيئات الفدرالية لاضطهاد الجمهوريين وأنصارهم، دأب ترامب على الترويج لمثل هذه الادعاءات، والآن يعتزم النائب جيم جوردان من ولاية أوهايو، وهو رئيس اللجنة الفرعية الجديدة، خلق مشهد مسرحي «للتحقيق» في تصرفات هيئات إنفاذ القانون والاستخبارات.
بين ادعاءات أخرى، يزعم جوردان أن التحقيق الذي يجريه مكتب التحقيقات الفدرالي في تهديدات بالقتل موجهة إلى أعضاء مجلس إدارة مدرسة محلية كان في الحقيقة محاولة مستترة لسحق حق الآباء في حرية التعبير، وعلى الرغم من فضح زيف هذه التهمة بشكل كامل، فبوسعنا أن نتوقع تماماً من اللجنة الفرعية أن تعيد إحياء كل النظريات القديمة التي لا تزال تعتبر حقائق مقدسة بين عدد صادم من الناخبين الجمهوريين حول مؤامرات «الدولة العميقة» ضد ترامب.
صحيح أن تحقيقات الكونغرس، في ظل نظام دستوري قائم على الفصل بين السلطات، تشكل أهمية حاسمة للإشراف الفَعّال على السلطة التنفيذية، لكن كثيرين من الجمهوريين يعترفون اليوم بأن الحكم الرشيد ليس هدفهم حقاً، والواقع أن قادة الجمهوريين في مجلس النواب، الذين ما زالوا يضمرون الاستياء إزاء التحقيقات العديدة في علاقات ترامب بروسيا، والشروع في إجراءات عزله مرتين، والتقرير المُدين الصادر عن لجنة التحقيق في أحداث السادس من يناير، أظهروا بوضوح أنهم يريدون الانتقام.
من المتوقع أيضاً أن يصب جوردان جام غضبه على وزارة العدل ومجتمع الاستخبارات، فيبدأ من حيث انتهت إدارة ترامب، ففي أكتوبر 2020 (قبل خسارة ترامب محاولة إعادة انتخابه مباشرة)، عَيَّن النائب العام بِل بار (وزير العدل في الولايات المتحدة) المدعي العام جون دورهام مدعياً خاصاً لتحري مؤامرات مفترضة ضد ترامب من تدبير وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفدرالي، وبعد ثلاث سنوات و6.5 ملايين دولار، لم يجد دورهام ما يُظهِره كنتيجة لجهوده سوى انتهاك قانوني منفرد من قِبَل محام في مكتب التحقيقات الفدرالي (والذي حُكِم عليه بالخضوع للمراقبة وخدمة المجتمع).
في غياب أي رادع، وبدون أي التزام بإثبات أي شيء في محكمة قانونية، تعهد الجمهوريون بتوسع نطاق مسعاهم، ولكن بخلاف إنتاج مسرحيات متلفزة وعبارات منمقة قصيرة الهدف منها جمع الأموال من المخلصين للحزب الجمهوري، من غير الواضح ماذا يريدون تحقيقه على وجه التحديد.
يتلخص أحد التخمينات في أنهم يأملون فقط صرف الانتباه عن أنباء أشد سوءاً حول ترامب، ذلك أن جاك سميث، المستشار الخاص المعين من النائب العام الحالي، يتولى التحقيق في الجهود التي بذلها ترامب لإسقاط نتائج انتخابات 2020، وقريبا، ستقرر فاني ويليس، التي تشغل منصب المدعي العام لمقاطعة فولتون في ولاية جورجيا، ما إذا كانت لتوجه الاتهام إلى ترامب بتهمة الضغط على مسؤولي الانتخابات في الولاية لحملهم على «إيجاد» المزيد من الأصوات لصالحه في عام 2020.
من المؤسف أن «تحقيقات» الجمهوريين في الكونغرس لن تمر بدون ثمن تتحمله الولايات المتحدة، فحتى الاتهامات الزائفة الوهمية من المرجح أن تقوض ثقة عامة الناس في هيئات إنفاذ القانون الفدرالي والهيئات الاستخباراتية، فأثناء ولاية ترامب المنفردة، انخفض بشكل حاد مستوى دعم مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية (وخاصة بين الجمهوريين)، ولم يتوقف ترامب عن مهاجمة مجتمع الاستخبارات لكشفه عن الكيفية التي تدخلت بها روسيا نيابة عنه في انتخابات 2016.
على الرغم من ارتداد مستوى دعم مكتب التحقيقات الفدرالي ارتفاعاً في العام الماضي بين الديموقراطيين، فإنه لم يتزحزح بين الجمهوريين، والآن أصبحت الاختلافات بين الحزبين حول مكتب التحقيقات الفدرالي أعظم من الاختلافات بينهما حول أي هيئة فدرالية أخرى، وهذا النوع من الاستقطاب لا يخلو من تداعيات خطيرة على الأمن الداخلي، ومكتب التحقيقات الفدرالي، مثله مثل كل منظمات إنفاذ القانون، يعتمدعلى التعاون من جانب عامة الناس لتنفيذ عمله، ولن يساعد إحياء اتهامات فقدت مصداقيتها ومخططات وهمية حول مكائد ودسائس مكتب التحقيقات الفدرالي هذه الهيئة على أداء وظيفتها على النحو اللائق، الأمر الأسوأ هو أن هذا من شأنه أن يحفز تطرف اليمين العنيف في أميركا.
لعل هذا هو بيت القصيد، فمن خلال تصوير مكتب التحقيقات الفدرالي على أنه العدو، سيحول الجمهوريون في مجلس النواب الانتباه عن المشكلة المتنامية المتمثلة بالتطرف المحلي، ووفقا لوزارة الأمن الداخلي، ومكتب التحقيقات الفدرالي، ودراسة أجراها مجلس الشيوخ ودامت ثلاث سنوات، يشكل القوميون من ذوي البشرة البيضاء وغيرهم من الجماعات اليمينية المتطرفة الآن أكبر تهديد إرهابي تواجهه الولايات المتحدة.
لقد أصبحت هذه المجموعات مرادفة على نحو متزايد للقاعدة الجمهورية، ومن أولئك الذين صدقوا نظرية المؤامرة QAnon إلى مجموعات الميليشيات مثل «الفتيان الفخورون» أو «حُفاظ اليمين»، كان نفوذ ترامب بين المنتمين إلى اليمين المتطرف سببا في جذب جماعة المتطرفين بالكامل إلى حظيرة الحزب الجمهوري، ورغم أن القادة الجمهوريين يواصلون تقديم إدانات شكلية لنظرية تفوق الجنس الأبيض، ومعاداة السامية، والعنف السياسي، فقد ظلوا على إخلاصهم للرجل الذي دعا هذه العناصر إلى الانضمام إلى الحزب، وكان الانتقاد الفاتر من جانب قادة الجمهوريين لمأدبة العشاء التي جمعت بين ترامب ونِك فوينتس المتعصب لتفوق الجنس الأبيض في نوفمبر مثالا واضحا على ذلك.
في شهادة راشيل كلاينفيلد من مؤسسة كارنيغي أمام لجنة السادس من يناير العام الماضي، أوضحت بالتفصيل كيف يهدد تنظير المؤامرة من جانب الحزب الجمهوري ومغازلة اليمين المتطرف سلامة الديموقراطية الأميركية، ويُظهِر بحثها أن التهديدات السنوية الموجهة إلى أعضاء الكونغرس ارتفعت بمقدار عشرة أضعاف (لتصل إلى 9600) خلال الفترة من 2016 إلى 2021، وفي الأسابيع الأحد عشر بين يوم الانتخابات في عام 2020 وتنصيب بايدن في يناير 2021، تزايد عدد المحتجين المسلحين في المظاهرات السياسية بنسبة 47% مقارنة بالأسابيع الأحد عشر السابقة.
لا يقتصر تصاعد العنف السياسي على واشنطن العاصمة، فوفقا لكلاينفيلد، تزايدت الاحتجاجات المسلحة في المجالس التشريعية للولايات بنحو 20% خلال الفترة من 2020 إلى 2021، وازدادت مشاركة الجماعات شبه العسكرية بنحو 96%، والآن بات احتمال ظهور عناصر مسلحة أو ميليشيات شبه عسكرية غير قانونية في احتجاجات «أوقفوا السرقة» أعلى بنحو أربع مرات من أي مظاهرات أخرى. الواقع أن هذه الاستجابة على الصعيد الوطني من جانب المتطرفين اليمينيين لمزاعم وهمية حول تزوير الانتخابات تتحدث عن نفسها.
يتبقى لنا أن نرى إلى أي مدى قد يذهب الأعضاء الجمهوريون في مجلس النواب، وسيُحسِنون صنعاً إذا تأملوا مصير أحد أسلافهم قبل سبعين عاماً، ففي عام 1954، وجه مجلس الشيوخ اللوم إلى السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي، رئيس اللجنة الفرعية الدائمة للتحقيقات، بسبب الاتهامات التي وزعها دون أي أساس، واغتيال الشخصيات، والادعاءات التي لم يكن لها أساس من الصحة حول اختراق الشيوعيين لمختلف قطاعات الحكومة.
يبدو أن مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون الآن يستعد لإعادة تمثيل ذلك التاريخ، ومن المحزن والمؤسف أن ديموقراطية أميركا وأمنها القومي سيعانيان من جراء ذلك.
* كينت هارينغتون كبير محللي وكالة الاستخبارات المركزية سابقا، وعمل ضابطاً للاستخبارات الوطنية لمنطقة شرق آسيا، وشغل منصب رئيس محطة في آسيا، ومنصب مدير الشؤون العامة في وكالة الاستخبارات المركزية.