يواصل الأديب والناقد المصري أحمد رجب شلتوت، شغفه الكبير بقراءة الأعمال الروائية، ويقدم لقرائه كتاباً جديداً بعنوان «والرواية غواية»، صدر أخيراً عن «وكالة الصحافة العربية– ناشرون»، ويضم قراءات في ثلاثين رواية عربية حديثة.

يقدم شلتوت لهذه القراءات بعنوان «الشغف بالحكاية»، وينطلق فيها من فرضية مفادها أن الحاجة إلى الحكاية تلازم الإنسان منذ سكن الأرض، «فآدم وحواء منذ غادرا الجنة وكابدا وحشتي التيه والوحدة، كان كل منهما يؤنس نفسه بأن يتذكر صورة رفيقه، تاقا إلى وجودهما السابق في الفردوس، فلما التقيا على الأرض وُلِدت الحكاية، كانت وسيلتهما للبوح واستعادة زمن مضى، وطيف رفيق بعيد، وأيضاً كانت الحكاية أداة لمحاولة تناسي ما كابده كل منهما منذ وطأ الأرض». فهما إذن أول من تذوق لذة الحكاية، راوياً ومروياً له. تلك اللذة التي أورثتنا الشغف بالحكاية، الذي لم ينقض إلى اليوم. ربما لذلك استعانت الديانات السماوية كلها بالقصص، فالقصص تم استخدامها في نحو ثلث القرآن، سواء في تناول قصص الأنبياء، أو في التذكير بأقوام سابقين، والأمر نفسه نجده في الإنجيل والتوراة.

Ad

المتعة والتسلية

وإذا كان معظم القراء يريدون من الرواية المتعة والتسلية، فإنهما ليستا الفائدة الوحيدة المرجوة من قراءة الرواية، بل والأدب عموماً، فهو عبر التخييل يوسع من خبراتنا، ويمنحنا نظرة أكثر اتساعاً وشمولاً لأنفسنا وللعالم. فالمشاعر التي قد تغمر القارئ، وأحلامه التي تتشكل أثناء ممارسته القراءة، يكون لها تأثير ليس فقط في فهمه للرواية، ولكن أيضاً في وجوده كله.

ويشير الكاتب إلى ما يُسمى ب «الوظيفة التخاطرية للرواية»، فقد يضبط القارئ نفسه وهو في حالة تلقٍّ لأفكار من شخصية روائية، ما يفسر تلك العلاقة العاطفية الاستثنائية التي قد نشعر بها تجاه شخصيات روائية، بحيث نشعر بأنهم يعيشون، يتكلمون، يفكرون، يتحركون فينا. وفق تعبير الفرنسي فانسان جوف، أن «الآخر في النص، سواء تعلَّق الأمر بالراوي أو بأحد الشخصيات، يرسل إلينا دوماً، عبر الانعكاس، صورة عن أنفسنا»، لذلك اقترح إريك فروم دراسة بعض النصوص الأدبية لبلزاك، ودوستويفسكي، وفرانز كافكا، لاكتشاف فهم عميق للإنسان، قد لا يتوافر بالقدر نفسه في كتب التحليل النفسي.

غلاف «والرواية غواية»

الإنسان راوٍ بطبعه

فمثلاً يمكن لمعايشة تجارب ومحن شخصية خيالية أن تفتح أعيننا على مشكلات كنا نتجاهلها، وتثير محادثات مفيدة، أو تقدم حلولاً لمشكلة قد تبدو مخيفة أو مستعصية. وأياً كانت المشكلة التي تجد نفسك فيها، هناك دوماً كتاب يذكرك بأن أناساً قبلك عايشوها. والإنسان بطبعه راوي قصص، فعندما نتحدث عن مشاعرنا، أو نتحدث عما مررنا به في العمل أو الطريق أو في أي موقف نحكي قصة، فضلاً عن أن رواية القصص وقراءتها أمور ذات فائدة كبرى لصحتنا النفسية، وهذا ما أكدته الدراسات في مجال علم النفس السردي من وجود صلة بين سرد القصص والصحة النفسية، فسرد القصص يساعدنا على استكشاف ذواتنا، والتفكير فيها، ما يعزِّز عملية التعافي النفسي.

يبدأ الكتاب بقراءة في رواية «أبناء حورة»، ويرى أن لجوء كاتبها عبدالرحيم كمال إلى الأسطورة كان بمنزلة أهجية للواقع، ومحاولة لإعادة صياغته، ليس كما تقوله مظاهره المادية، بل بما يعبِّر أيضاً عن ذلك الصراع الحاد، الساخر، اللاذع، بين فقر الواقع وغضب المخيلة المخنوق، كما أشار إلى النزوع الصوفي في الرواية، خصوصاً شخصية «الشيخ صفي الدين»، الذي يتخذ من الحب مذهباً، ولم يكن مجرد محب، بل كان تجلياً للحب، وهو الرمز الصوفي الأسمى، وهو السلاح الأقوى الذي مكَّن أبناء حورة من الانتصار.

كذلك يؤكد على النزوع الصوفي في رواية مصطفى البلكي «بيت العدة والكرباج»، الذي كان رمزاً لجبروت السُّلطة، لكنه في الرواية تحوَّل إلى مقام للدرويش، ورواية «كيميا» لوليد علاء الدين.

الأنا والآخر

ويرصد الكاتب علاقة الأنا بالآخر الغربي في أكثر من رواية، مثل «اللوكاندة» لناصر عراق، و«أشباح بروكسل» لمحمد بركة، ويرى الكاتب أن رواية «اللون العاشق» لأحمد فضل شبلول ترسم صورة تاريخية لمصر في مطلع القرن الماضي، وتختلف الصورة كثيراً في مطلع القرن الحالي، كما يرى الكاتب في روايات «جدران مرتفعة بلا ظل» للسيد نجم، و«زيارة أخيرة لأم كلثوم» لعلي عطا، و«ما رآه سامي يعقوب» لعزت القمحاوي، و«وطن الجيب الخلفي» لمنى الشيمي، و«القاهرة» لضحى عاصي.

أما الواقع العربي اليوم، فهو موزع بين القمع كما في روايات «حصن الزيدي» لليمني الغربي عمران، و«عروس الفرات» للعراقي علي المؤمن، و«نساء وادي النوم» للمغربي جلول قاسمي، أو الحرب كما في روايات «الشاعر وجامع الهوامش» للسوري فواز حداد، و«شظية في مكان حساس» للعراقي وارد بدر السالم، وهو ما يؤثر سلباً في الهوية كما تطرحها روايات «بودابار» للبنانية لنا عبدالرحمن، و«قد لا يبقى أحد» للسوري هيثم حسين، و«قيامة البتول الأخيرة» للسوري زياد كمال حمامي. وينتهي الكاتب بقراءة في روايتي الشاعر أمجد ناصر «حيث لا تسقط الأمطار»، و«هنا الوردة»، راصداً ملامح الاغتراب فيهما.