نصب الشهيد التذكاري
عشت سنين طويلة في غربة الدراسة طالباً العلم في بلاد الأسود الثلاثة (إنكلترا) وتحديداً في فترة دراسة الدكتوراه التي عشتها وسط العاصمة في شارع (ابر والربون ستريت) قرابة الأربع سنوات ونيف. الأهم من استذكار تلك الأيام الخوالي بحلاوتها ومرارتها الآن هو واقع الحال، كنت في كل صباح من كل يوم أمشي إلى جامعتي، وأحيانا أسترق النظر عند الحديقة المتاخمة للبناية التي أسكن لنصب تذكاري لعدد من ضحايا الإرهاب لهجوم 7/7 من عام 2005، وأمثال ذاك النصب الكثير حول العاصمة وأجزاء متفرقة حول البلاد وفي كل بلاد العالم، حتى أنني شاهدت المعابد تقام لمقاتلين في اليابان ماتوا منذ مئات السنين ولهم قصص متعددة، كل ذلك احتراماً لتضحياتهم لأجل بلدانهم.
المهم أن مثل ذلك النصب التذكاري وإذا ما قام في مكان ما وأصبح شهيراً وارتبط بذاكرة الناس والمارة، يصبح له طابع خاص واحترام شديد لدى الشعوب والزائرين والمقيمين لا يمكن أن يوصف، ولا يوصف ذاك الشعور الداخلي البتة.
ولله الحمد والمنة، اهتمت الدولة لدينا هنا في الكويت بهذا الجانب الإنساني كثيراً، نعم نحتاج أن نوثق ونعرف ونستذكر شهداءنا بشكل أكبر، ولا يمكننا أن نوفيهم حقهم مهما طال الزمان أو قصر، ولكن في نهاية المطاف كان هناك اهتمام بوضع نصب تذكاري لأبشع جرائم التاريخ الحديث خاصة على المنطقة، وهو الغزو العراقي الغاشم على دولتنا الحبيبة الكويت عام 1990.
مثل هذا النصب التذكاري الذي شاهدته في عدد من الجمعيات التعاونية يهدف إلى استذكار تضحيات الشهداء وتثبيت حقائق تاريخية لدى المارة، وكل من يشاهد النصب من بعيد، كما أن له الأثر الكبير من الناحية التعليمية بحيث يعيد النصب إحياء مآثر الشهداء ويعلم الصغار، ومن لم يعرف الكثير عن الغزو وما تعايش معه الناس إبان تلك الفترة، وكيف غدر العراقيون بجارهم وهدروا دماء أبنائه.
لن أذكر طبعا أنه (النصب) عربون وفاء لأسر الشهداء، لأن هذا تقليل من حقهم، ومهما عملت الدولة فلن توفي مواطنيها الشهداء البتة ولا أسرهم حقهم ولا حق دمائهم الزكية، والآن وبعد أن تعمدت أن أستهل بتلك الجمل في مقدمة المقالة، وجب عليّ أن أوضح أمراً مهماً وهو أهمية ارتباط أي نصب تذكاري، لا سيما نصب شهداء الوطن بالموقع الذي دشن فيه، أي أن يرتبط النصب أو المعلم الثقافي بشكل عام بالمكان الذي أوجد فيه منذ يومه الأول، فليس من المنطقي أن يتم تدشين نصب تذكاري في موقع ما وبعد سنة يتم نقله لموقع آخر، وهكذا وعلى حسب الأهواء، تخيلوا لو هذا حصل في بلاد العالم الأول! تخيلوا كيف ستكون ردة فعل الناس!
شرعت جمعية السرة التعاونية في دولة الكويت بالتوسع شيئاً فشيئاً بنشاطاتها التجارية ورغم أن هذا الأمر بالمطلق شيء جميل ومحمود ويخدم سكان المنطقة وكل مرتادي الجمعية، فإنهم وبحجة وضع ملاعب رياضية للعبة (البادل) التي انتشرت في آخر سنتين في الكويت، أزالوا النصب التذكاري لشهداء المنطقة إبان الغزو العراقي بحجة إعادة نقله إلى مكان آخر، وعلى إثر ذلك ثارت حفيظة الناس وأقيمت وقفات احتجاجية نقلت على المنصات الإلكترونية وتم تداول الأمر في الدواوين، وهذا كله مفهوم ويعلل بحرقة قلوب الأهالي والمناصرين لتلك القضية، ولكن الأهم هو التعامل مع الحدث اليوم.
ما تم فعله يجب أن يتم التعامل معه بصورة راقية الآن تحفظ للجميع كرامتهم، فهذه نصيحة للقائمين على العمل في الجمعية أقدمها لهم بكل ود، تواصلوا مع أهالي الشهداء وليتم التنسيق بينكم لإعادة هذا الصرح إلى مكانه نفسه احتراماً لمشاعرهم و(خذوا بخاطرهم) واعتذروا عما حصل بأقرب وقت، نعم بلغني أنه إرث من إدارات وقرارات سابقة للجمعية، إلا أنني أكررها مرة أخرى، فليعد النصب التذكاري إلى مكانه الأول وليكن احترام دم الشهيد أزكى وأهم همومكم الآن.
وكما علمت بأن النصب ليس على مقربة من أي خدمات يمكن أن تمس التوسع المقام للملاعب، فلا شيء يعوق إعادته وترميمه في أسرع وقت، وتقديم اعتذار لأهالي الشهداء احتراماً لما بدر من الجمعية ككيان دون النظر لحيثيات الأمور.
احترام دم الشهيد واجب وفرض عين على الجميع، فما بالك إذا كان مواطناً قد أفنى روحه في ريعان شبابه ليروي هذه الأرض بدمائه في وجه عدو غدار لم يرحم الأطفال ولا الشيوخ ولا النساء.