تسييس الوجع
لم يستطع الانتهازيون أن يفوتوا الفرصة رغم أنها لا تحمل تعريف الكلمة في معجم المعاجم والذي ينص على «وقت توظيف مناسب للقيام بعمل ما» ويقال انتهز الفرصة أو إنها لفرصة سعيدة، أو اغتنم الفرصة أو... أو...، ولكن أي من هذه التعاريف يمكن أن يرتبط بزلزال هز الأرض وأسقط الحجر فأنهى حيوات آلاف من البشر؟ كيف يكون الزلزال أو يتحول إلى فرصة؟ ربما هي كذلك في تعريفها الانتهازي البحت، أي عندما يقال «اغتنمها فرصة» أو إنها فرصة من ربنا!!
هكذا حولوا الفجيعة أو الموت الجماعي إلى فرصة جديدة في سلسلة طويلة من الأحداث التي سيست أو التي داس فيها رجال السياسة ونساؤها وكثيرون من الذين لا يحملون هذه الصفة، لكنهم في طبعهم أكثر سوءا من أولئك المسميين عاملين في السياسة.
كثير من الانتهازية هي واللا مبالاة بوجع الناس أي البشر أينما كانوا، أليسوا جميعا بشر، خصوصاً في أوطاننا حيث لا حول لهم ولا قوة في اختيار مكان إقامتهم أو المكان الذي يرحلون له أو يجبرون على الرحيل له أو حتى الغرفة أو الخيمة التي تتحول في لحظة إلى ما يسمى سكناً أو منزلاً؟!
في البدء كثرت صور الدمار والجثث، ومع الوقت استيقظ الانتهازيون من سبات اللحظة لاغتنامها، أليست هي فرصة، حيث تحول الخطاب من ذاك الرحيم المتعاطف الساعي إلى الدعم بأي شكل إلى تقسيم المقسم من جديد، وتفتيت المفتت أو التذكير به حتى لا ينسى المواطن العادي الموجوع أنه على ضفة من النهر، وليس هناك على الضفة الأخرى حيث يقطن «الأشرار»؟!!
صاروا يشيطنون اللحظة لا الآخر فقط، ويشيطنون الموت ويقسمونه، فهذا لا يستحق الموت، وذاك من البلد نفسه، وربما من البلدة الصغيرة نفسها التي نزح منها أو أجبر، هو يستحق أو ليمت لأنه يقيم في المكان الخطأ، نعم هكذا كان يقال دوما ويكثر السؤال لمن يحاول أن ينقذ حياة بريئة: «لماذا تريدون نقلهم إلى حيث الأشرار في حين هم الآن هنا بين الخيرين؟»، وحين يكون الرد «هل الأفضل أن يكونوا أحياء في المكان الغلط أم موتى في المكان الصح؟»، يسقط السؤال في حفر أنفسهم المخرمة بسواد كراهيتهم المصطنعة لأن الإنسان لا يخلق وهو يحمل صفة الكراهية أو القدرة عليها مثل لون عينيه أو شكل وجهه.
كان الوجع ولا يزال أمامنا يلاحقنا أينما نحن حتى في ساعات النوم المتقطعة ونحن أو هم منغمسون ومنهمكون في تقسيمه إلى وجع يستحق الرحمة، وآخر لا يستحق سوى مزيد من الموت، وكأنهم يقولون دعوهم يموتون، ألم يبقوا هناك أو يرحلوا إلى هناك؟ في حين حياة الآخرين الذين التصقوا بنا أغرقوا ساحات وفضاءات التواصل الاجتماعي برسائل الكراهية والتكفير والخيانة، حتى في الموت يقسمون إلى موالين ومعارضين أو خونة ووطنيين رغم أن ملك الموت لا يفرق بين أحد، كلنا أمامه سواسية في الموت ونهاياتنا شبر في أرض تطمر بحفنة من التراب.
حتى التعازي بخلوا بها على الآخر، بل قالوا للبعيدين المتعاطفين مع الموتى والجرحى لا ترسلوا لهم قطعة قماش تحميهم من برد شتاء لا يرحم ولا طحين أو رغيف خبز ربما يخفف من كثير جوعهم حتى قبل أن تغضب الطبيعة وتثير عليهم الأرض وما عليها.
تقول صديقتي أو صديقاتي في سلسلة من الرسائل على مجموعة تجمعنا نحن- نساء من العرب والأكراد والأمازيغيين والفرس والعجم وآخرين- تقول: «من أين أتوا بكل هذا السواد بل هذه الكراهية؟»، وتصمت في خوف حتى من السؤال لأنه هو الآخر قد يكون لديهم إشارة لتعاطف مع هذا الفريق أو ذاك، فقد أصبح الخوف ليس من المتسلطين الكبار ممن يملكون آلات الموت والدمار بل حتى من الصغار ممن يحملون عقولاً وألسنةً وأقلاماً وآلات حديثة قادرة على نشر كثير من الزيف والكراهية في أقل من دقيقه.
ما أسهل الموت في زمن السوشال ميديا والجيوش الإلكترونية والمستنفعين وتجار الموت الذين التقت دروبهم أو اقتربت من عصابات المخدرات والقتل ومافيات الموت المتنقل على عربات تلك السيارات الفارهة، ليتكم تعودون إلى بعض رحمتكم التي ترسخها كل الأديان، بل كل الحضارات والثقافات التي لا تزال رموزها على أرضكم، وأن تكفوا عن تسييس الوجع.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.