الربيع العربي أجبر البعض ولو عن غير قناعة على تقديم تنازلات وقبول مصافحات لم تكن مستساغة من قبل

في عام 2012 وفي ذروة انشغال منطقتنا بما سمّي «الربيع العربي»، لفتني أن «المصالحة» الفلسطينية- الفلسطينية التي رعتها دولة قطر لم تأخذ في الميدان السياسي ولا الساحة الإعلامية مساحة كافية من الضوء ولا التعليق ولا التحليل، فولد الحدث منسياً في بحر أحداث تتلاطم فيه الأمواج من كل حدب وصوب، رغم أنه في ظاهر الأمر حدث مفصلي كان من المفترض أن يضع نهاية للانقسام الذي نتج عن الرفض الغربي ومعه حركة «فتح» لفوز حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية العامة التي شارك فيها الفلسطينيون عام 2007.

وبتاريخ 13/ 10/ 2022، وبعد مرور عقد من الزمن، يوقّع 14 فصيلاً فلسطينياً ومن بينها حركتا «حماس» و«فتح» على وثيقة «إعلان الجزائر»، حيث اتفق المشاركون في لقاء المصالحة الذي عقد في «قصر الأمم»- الذي سبق أن أعلن فيه رئيس «منظمة التحرير الفلسطينية» ياسر عرفات في 15 نوفمبر 1988 قيام «الدولة الفلسطينية»- على اجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في غضون عام.
Ad


ومرة أخرى، يفترض بهذا الاتفاق أن يكون مفصلياً في مسار إصلاح ذات البين الفلسطيني، الا أنه يخشى أن يتحول سريعاً الى حدث منسي ينضم الى عشرات المصالحات ومحاولات رأب الصدع التي عبّر المنخرطون فيها عن تفاؤل وجدّية بتحقيق نجاحها بينما أثبت الواقع عكس ذلك!

ونستذكر في السياق مآلات اليمين التي أقسمها قادة «حماس» و«فتح» بجوار الكعبة المشرفة في مارس 2007، وكذلك فشل المحاولات المصرية المتكررة بتحقيق التوافق المنشود بقيادة الراحل عمر سليمان، ناهيك عن إخفاق الحكومة الوطنية في عام 2014، مروراً بجولات التقاتل الأهلي وسلسلة المواجهات الخطابية والإعلامية والشعبية. عقب «إعلان الجزائر» خرج زعيم حركة حماس إسماعيل هنية مهللاً لـ «يوم الأفراح داخل فلسطين والجزائر وكل الأمة العربية ومحبّي الحرية»، ولافتاً الى يوم «الأحزان داخل الكيان الصهيوني»، وهنا يبدو التساؤل مشروعاً: هل سيكون التفاؤل في تنفيذ ما اتفق عليه هذه المرة أعلى منسوباً من المرّات السابقة؟ وهل أن «الكيان الإسرائيلي» سيحزن فعلاً ويقلق على مصيره من وحدة الصفّ الفلسطيني أكثر من أي وقت مضى؟!

التحولات الإقليمية والدولية التي جهّزت الأرضية لاتفاق «الدوحة» عام 2012 كانت واضحة، فالربيع العربي أجبر البعض- ولو عن غير قناعة- الى تقديم تنازلات وقبول مصافحات لم تكن مستساغة من قبل، وكانت مؤشرات وصول «التيارات الإسلامية» الى الواجهة والحكم واضحة في وقتها، كما كان عدم استقرار النظام السوري محفّزاً لحركة «حماس» للبحث عن مخارج أخرى تحمي ظهرها الذي كاد أن يكون مكشوفاً، ومع تحوّل «الربيع العربي» الى خريف دام، ومع تبدّل المعطيات والتوازنات، عاد الجميع الى سابق عهدهم من عدم الاتفاق الذي سرعان ما يتحول الى شقاق.

وهنا يبدو الاستفهام منطقياً عن الظروف والمعطيات التي أمّنت المناخ المؤاتي «لإعلان الجزائر» الذي يأمل الشعب العربي من الخليج الى المحيط أن تكون المصالحة التي نتجت عنه نهائية، جادة وحقيقية، وأن تكون قناعات الفصائل الفلسطينية بأشكالها وانتماءاتها كافة قد رست على المصلحة الوطنية المشتركة لا على منطق المحاصصة والصراع على السلطة.

لا شك أن المصالحة الجديدة كانت نتيجة حماسة جزائرية تقليدية للقضية العربية الأم، وقد ساهم في إنضاجها وهن فلسطيني مشترك مع حرص الرئيس «تبون» على تحقيق نتائج ملموسة قبل انعقاد القمة العربية المرتقبة في الجزائر، في وقت يرجّح البعض أن مبادرة الرئيس الجزائري «التي بدأ التحضير لها منذ نحو عام تتضمن ردّاً غير مباشر على التقارب المغربي- الإسرائيلي، ولاسيما مع التدهور المستجد في علاقة بلد «المليون شهيد» مع الجار اللدود «المغرب».

ونتساءل في هذا السياق: هل انشغال القارة العجوز والولايات المتحدة الأميركية بالحرب الروسية- الأوكرانية فتح كوّة في جدار الالتفات الدولي عن القضية الفلسطينية؟ أم أن التوازنات الدولية- الإقليمية تريد للجبهة الفلسطينية أن تكون موحّدة بمواجهة الكمّ المتزايد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية على حد سواء، مما يخشى معه أن يتحوّل بلحظة الى انفلات ذي طابع أمني وعكسري يشكل تهديداً للمصالح الإسرائيلية؟!

الجواب عما سبق غير واضح حتى اللحظة مع ميلان نحو الترقب الحذر، وخصوصا أنه كان لافتاً عدم حضور الرئيس الفلسطيني الى الجزائر وغيابه عن مشهد يفترض أنه سيكون تاريخياً، ومما يزيد درجة الترقب ما سرّب للإعلام عن اختلاف وجهات النظر بين الفصائل الرئيسة حول تشكيل حكومة وحدة وطنية يلتزم المشاركون فيها بمقررات «الشرعية الدولية».

الثابت الوحيد لدينا عموماً هو أن تغّير الوجوه وتحوّل الظروف لا يعني بالضرورة تغييراً في النهج ولا تبديلاً في الذهنية، وهذا ما يذكّرني بما سبق أن أشرت اليه في مقال سابق عن حادثة واقعية رواها لي أحد الفرنسيين مستذكراً بأسف كيف أنهت الفوضى لقاء جامعاً للفصائل الفلسطينية نجح في تحقيقه اليسار الفرنسي في ثمانينيات القرن الماضي للتعريف بالقضية العربية والإنسانية المركزية، وقد كان السبب في انتهاء اللقاء فوضى عارمة وحماسة زائدة دارت رحاها نتيجة اختلاف المتحدثين ومن ثم المشاركين حول «مستقبل فلسطين ما بعد التحرير»!

على الفصائل الفلسطينية أن تثبت هذه المرّة أنها تعلّمت من دروس الماضي وأنها ستنجح في عدم تكرار النتائج السلبية لكل انشقاق واقتتال وتشرذم، وعلينا كعرب أن ندرك ونتيقن أن تداعيات ومآلات القضية الفلسطينية المباشرة وغير المباشرة، الإيجابية والسلبية، حاضرة في ماضينا ومؤثرة في حاضرنا وسيكون لها حتماً بصمات واضحة في مستقبل أجيالنا.

* كاتب ومستشار قانوني.