تُعد حرب روسيا ضد أوكرانيا سبباً في إعادة تشكيل السياسة الأوروبية، لقد أثبتت دول الكتلة السوفياتية السابقة في وسط وشرق أوروبا- وجميعها الآن دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي- أنها قوة رئيسة كبرى في تشكيل استراتيجية الغرب للحفاظ على أوكرانيا كدولة قومية مستقلة، لكن ليس أكثر من بولندا.
عندما توقفت المناقشات حول فرض حد أقصى لأسعار النفط الخام الروسي المنقول بحراً في الخريف الماضي، قامت الولايات المتحدة بممارسة الضغوط على بولندا وليتوانيا وإستونيا للخروج من المأزق، لقد بذلت هذه الحكومات قصارى جهدها للمطالبة بسعر أقل (30 دولارا للبرميل)، من أجل خفض عائدات النفط في الكرملين بشكل أكبر، وفي بداية هذا العام، لجأ المسؤولون في وزارة الخزانة الأميركية إلى لاتفيا وليتوانيا واستونيا وبولندا مرة أخرى، لمعرفة الحد الأقصى لمستوى الأسعار الذي قد يقبلونه في مقابل سقوف إضافية للمنتجات النفطية الروسية المُكررة.
وقبل اندلاع الحرب، غالبا ما كان يتم تصوير بولندا ودول البلطيق باعتبارها مُتعنتة على نحو غير عقلاني عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع روسيا، ونظراً لتذكرها متاعب الإمبريالية والاحتلال والقمع الروسي، فقد أظهرت منذ فترة طويلة «الواقعية الروسية»، في تناقض صارخ مع الموقف العملي الاقتصادي التوجه الذي تبنته ألمانيا وفرنسا.
وقد ساد هذا التباعد في وجهات النظر حتى الغزو الروسي الشامل في فبراير الماضي، وعلى الرغم من أن أجهزة المخابرات الأميركية قدمت أدلة دامغة على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان على وشك إرسال قواته، فإن معظم الحكومات الغربية الأخرى استمرت في الإصرار على أن مثل هذه الخطوة «غير منطقية» وبالتالي فهي «غير واردة»، وعلى النقيض من ذلك، أخذت بولندا ودول البلطيق التقارير بمعناها الظاهري واستعدت للأسوأ.
وبعد عام واحد، أصبح موقفها الاستراتيجي هو المعيار الغربي الجديد، واليوم، تتمتع حكومات أوروبا الوسطى والشرقية بنفوذ كبير في بروكسل ولندن وواشنطن، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بتصميم السياسات اللازمة لمعاقبة روسيا، وقد أظهر بعضها عزيمة صلبة، حتى مع قيام جيرانها الأكبر والأقوى في الاتحاد الأوروبي ببذل جهود فاترة وترددوا في اتخاذ هذه الخطوة.
على سبيل المثال، قدمت بولندا مساعدات عسكرية وإنسانية ومالية لأوكرانيا أكثر من معظم الدول الغربية الأخرى، وقد استقبلت 1.5 مليون لاجئ أوكراني (أكثر من أي دولة أخرى)، وزادت الإنفاق الدفاعي إلى مستوى قياسي بلغ 3 في المئةمن الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، الأمر الذي وضع الجيش البولندي على المسار الصحيح ليصبح أحد أفضل الجيوش في أوروبا. وبطبيعة الحال، لم تتخذ كل دول أوروبا الوسطى والشرقية خطوات مماثلة، والجدير بالذكر أن هنغاريا، حليف بولندا الرسمي «غير الليبرالي»، قد تبنت موقفا مؤيدا لروسيا بشكل علني، فكانت دعايتها المناهضة للاتحاد الأوروبي وعرقلة العقوبات ضد روسيا مصدر قلق كبير لكل من الاتحاد الأوروبي ككل وجيرانه بلدان مجموعة فيزيغراد (جمهورية التشيك وبولندا وسلوفاكيا). اعتادت بولندا وهنغاريا أن تكونا متحِدتين عندما تفضلان الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بشأن قضايا مثل الهجرة وسيادة القانون، واليوم، تجد بولندا وهنغاريا أنفسهما في زوايا متقابلة.
إن هذا الخلاف يجعل بلدان مجموعة فيزيغراد في موقف صعب، تُعد كلا الحكومتين التشيكية والسلوفاكية من بين أكبر المؤيدين لأوكرانيا على مستوى العالم، من حيث إجمالي المساعدات الثنائية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي للجهات المانحة، كما أظهرت الحكومتان تضامنهما مع أوكرانيا من خلال الترحيب بمئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين وتوفير الأسلحة الثقيلة، علاوة على ذلك، استخدمت سلوفاكيا مكانتها باعتبارها رئيسة لبلدان مجموعة فيزيغراد لوقف التعاون في مجال السياسة الخارجية مع هنغاريا، ومع ذلك، يمكن تعزيز هذا التوجه الواضح في السياسة الخارجية من خلال التوافق الوثيق في مجالات السياسة الأخرى، ولاسيما فيما يتعلق بسياسة الطاقة، حيث كان الحظر النفطي الذي فرضه الاتحاد الأوروبي العام الماضي مثالاً على ذلك: فقد تفاوضت كل من جمهورية التشيك وهنغاريا وسلوفاكيا على استثناءات تسمح لها بمواصلة استيراد النفط الروسي عبر خط أنابيب دروغبا الجنوبي.
وفي حين لا تزال الالتزامات من جانب بعض دول أوروبا المركزية والشرقية غير مكتملة، استمرت بولندا في سعيها لمواجهة هذا التحدي، ولكن للظهور بشكل حاسم كقوة جديدة في الاتحاد الأوروبي، يتعين عليها بذل المزيد من الجهد لكسب ثقة الحكومات الغربية الأخرى، وهذا يعني تغيير صورتها باعتبارها حليف هنغاريا غير الليبرالي ومعالجة أوجه القصور الديموقراطية التي تعانيها بشكل مباشر.
بعد وصول حزب القانون والعدالة الشعبي اليميني إلى السلطة في عام 2015، تراجعت سمعة بولندا بشكل ملحوظ، فبعد نشر قصة النجاح الاقتصادي الرائدة في الاتحاد الأوروبي، لم يعد شركاؤه ينظرون إلى البلاد كما لو كانت تقدم مواقف بناءة إلى حد كبير، وفي عهد رئيسه ياروسلاف كاتشينسكي، قام حزب القانون والعدالة بجرد الهيئات القضائية من استقلالها، وتشويه وسائل الإعلام المستقلة، والحد من إمكانية الإجهاض بشكل قانوني، وإنهاء التمويل الحكومي لعمليات التلقيح الصناعي، وقام بمهاجمة مثليي الجنس ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسيا ونشطاء حقوق المرأة في الخريف الماضي.
لقد كان التراجع الديموقراطي في بولندا محط الأنظار أثناء الجائحة، عندما انتهى بها الأمر في مواجهة مع المفوضية الأوروبية بشأن شرط سيادة القانون لتلقي أموال التعافي من الجائحة من الاتحاد الأوروبي، وتسعى الحكومة البولندية الآن إلى تنفيذ إصلاحات محدودة تهدف إلى تحرير الأموال التي تم تخصيصها لها.
وبالنظر إلى المستقبل، يأمل المرء أن يتضاءل نفوذ كاتشينسكي البالغ من العمر 73 عامًا، مما يُمكن حزب العدالة والقانون الحاكم من الخضوع لعملية إصلاح سياسية، ويعتبر الكثيرون الآن رئيس الوزراء ماتيوز مورافيكي- وهو مصرفي سابق ومستشار اقتصادي لرئيس الوزراء البولندي السابق دونالد توسك- أكثر حداثة وكفاءة واستقلالية (من كاتشينسكي) مقارنة بأسلافه في حزب العدالة والقانون، وفي خريف هذا العام، ستوفر الانتخابات العامة لعام 2023 فرصة جديدة لإعادة ضبط وإحياء المؤسسات الديموقراطية.
لا يمكن إنكار الأهمية الجيوستراتيجية لبولندا، وقد أدت استجابتها لحرب العدوان الروسية إلى تحسين مكانتها الدولية، ومع القادة الذين يُدركون الفروق الدقيقة والتعقيدات المرتبطة بالتعامل مع روسيا، يمكن أن تعمل كوسيط فعال لمصالح أوروبا المركزية والشرقية في بروكسل، ولمصالح أوروبا في العالم، لكن وكي تؤخذ بولندا على محمل الجد، يتعين عليها الدفاع عن القيم والحريات الديموقراطية في الداخل بالعزم نفسه الذي أبدته في وقوفها مع أوكرانيا.
* خبيرة سياسية ومستشارة أولى لنائب وزير خارجية جمهورية سلوفاكيا، وخبيرة اقتصادية سابقة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك المركزي الأوروبي.
* سونيا موزيكاروفا
عندما توقفت المناقشات حول فرض حد أقصى لأسعار النفط الخام الروسي المنقول بحراً في الخريف الماضي، قامت الولايات المتحدة بممارسة الضغوط على بولندا وليتوانيا وإستونيا للخروج من المأزق، لقد بذلت هذه الحكومات قصارى جهدها للمطالبة بسعر أقل (30 دولارا للبرميل)، من أجل خفض عائدات النفط في الكرملين بشكل أكبر، وفي بداية هذا العام، لجأ المسؤولون في وزارة الخزانة الأميركية إلى لاتفيا وليتوانيا واستونيا وبولندا مرة أخرى، لمعرفة الحد الأقصى لمستوى الأسعار الذي قد يقبلونه في مقابل سقوف إضافية للمنتجات النفطية الروسية المُكررة.
وقبل اندلاع الحرب، غالبا ما كان يتم تصوير بولندا ودول البلطيق باعتبارها مُتعنتة على نحو غير عقلاني عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع روسيا، ونظراً لتذكرها متاعب الإمبريالية والاحتلال والقمع الروسي، فقد أظهرت منذ فترة طويلة «الواقعية الروسية»، في تناقض صارخ مع الموقف العملي الاقتصادي التوجه الذي تبنته ألمانيا وفرنسا.
وقد ساد هذا التباعد في وجهات النظر حتى الغزو الروسي الشامل في فبراير الماضي، وعلى الرغم من أن أجهزة المخابرات الأميركية قدمت أدلة دامغة على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان على وشك إرسال قواته، فإن معظم الحكومات الغربية الأخرى استمرت في الإصرار على أن مثل هذه الخطوة «غير منطقية» وبالتالي فهي «غير واردة»، وعلى النقيض من ذلك، أخذت بولندا ودول البلطيق التقارير بمعناها الظاهري واستعدت للأسوأ.
وبعد عام واحد، أصبح موقفها الاستراتيجي هو المعيار الغربي الجديد، واليوم، تتمتع حكومات أوروبا الوسطى والشرقية بنفوذ كبير في بروكسل ولندن وواشنطن، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بتصميم السياسات اللازمة لمعاقبة روسيا، وقد أظهر بعضها عزيمة صلبة، حتى مع قيام جيرانها الأكبر والأقوى في الاتحاد الأوروبي ببذل جهود فاترة وترددوا في اتخاذ هذه الخطوة.
على سبيل المثال، قدمت بولندا مساعدات عسكرية وإنسانية ومالية لأوكرانيا أكثر من معظم الدول الغربية الأخرى، وقد استقبلت 1.5 مليون لاجئ أوكراني (أكثر من أي دولة أخرى)، وزادت الإنفاق الدفاعي إلى مستوى قياسي بلغ 3 في المئةمن الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، الأمر الذي وضع الجيش البولندي على المسار الصحيح ليصبح أحد أفضل الجيوش في أوروبا. وبطبيعة الحال، لم تتخذ كل دول أوروبا الوسطى والشرقية خطوات مماثلة، والجدير بالذكر أن هنغاريا، حليف بولندا الرسمي «غير الليبرالي»، قد تبنت موقفا مؤيدا لروسيا بشكل علني، فكانت دعايتها المناهضة للاتحاد الأوروبي وعرقلة العقوبات ضد روسيا مصدر قلق كبير لكل من الاتحاد الأوروبي ككل وجيرانه بلدان مجموعة فيزيغراد (جمهورية التشيك وبولندا وسلوفاكيا). اعتادت بولندا وهنغاريا أن تكونا متحِدتين عندما تفضلان الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بشأن قضايا مثل الهجرة وسيادة القانون، واليوم، تجد بولندا وهنغاريا أنفسهما في زوايا متقابلة.
إن هذا الخلاف يجعل بلدان مجموعة فيزيغراد في موقف صعب، تُعد كلا الحكومتين التشيكية والسلوفاكية من بين أكبر المؤيدين لأوكرانيا على مستوى العالم، من حيث إجمالي المساعدات الثنائية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي للجهات المانحة، كما أظهرت الحكومتان تضامنهما مع أوكرانيا من خلال الترحيب بمئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين وتوفير الأسلحة الثقيلة، علاوة على ذلك، استخدمت سلوفاكيا مكانتها باعتبارها رئيسة لبلدان مجموعة فيزيغراد لوقف التعاون في مجال السياسة الخارجية مع هنغاريا، ومع ذلك، يمكن تعزيز هذا التوجه الواضح في السياسة الخارجية من خلال التوافق الوثيق في مجالات السياسة الأخرى، ولاسيما فيما يتعلق بسياسة الطاقة، حيث كان الحظر النفطي الذي فرضه الاتحاد الأوروبي العام الماضي مثالاً على ذلك: فقد تفاوضت كل من جمهورية التشيك وهنغاريا وسلوفاكيا على استثناءات تسمح لها بمواصلة استيراد النفط الروسي عبر خط أنابيب دروغبا الجنوبي.
وفي حين لا تزال الالتزامات من جانب بعض دول أوروبا المركزية والشرقية غير مكتملة، استمرت بولندا في سعيها لمواجهة هذا التحدي، ولكن للظهور بشكل حاسم كقوة جديدة في الاتحاد الأوروبي، يتعين عليها بذل المزيد من الجهد لكسب ثقة الحكومات الغربية الأخرى، وهذا يعني تغيير صورتها باعتبارها حليف هنغاريا غير الليبرالي ومعالجة أوجه القصور الديموقراطية التي تعانيها بشكل مباشر.
بعد وصول حزب القانون والعدالة الشعبي اليميني إلى السلطة في عام 2015، تراجعت سمعة بولندا بشكل ملحوظ، فبعد نشر قصة النجاح الاقتصادي الرائدة في الاتحاد الأوروبي، لم يعد شركاؤه ينظرون إلى البلاد كما لو كانت تقدم مواقف بناءة إلى حد كبير، وفي عهد رئيسه ياروسلاف كاتشينسكي، قام حزب القانون والعدالة بجرد الهيئات القضائية من استقلالها، وتشويه وسائل الإعلام المستقلة، والحد من إمكانية الإجهاض بشكل قانوني، وإنهاء التمويل الحكومي لعمليات التلقيح الصناعي، وقام بمهاجمة مثليي الجنس ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسيا ونشطاء حقوق المرأة في الخريف الماضي.
لقد كان التراجع الديموقراطي في بولندا محط الأنظار أثناء الجائحة، عندما انتهى بها الأمر في مواجهة مع المفوضية الأوروبية بشأن شرط سيادة القانون لتلقي أموال التعافي من الجائحة من الاتحاد الأوروبي، وتسعى الحكومة البولندية الآن إلى تنفيذ إصلاحات محدودة تهدف إلى تحرير الأموال التي تم تخصيصها لها.
وبالنظر إلى المستقبل، يأمل المرء أن يتضاءل نفوذ كاتشينسكي البالغ من العمر 73 عامًا، مما يُمكن حزب العدالة والقانون الحاكم من الخضوع لعملية إصلاح سياسية، ويعتبر الكثيرون الآن رئيس الوزراء ماتيوز مورافيكي- وهو مصرفي سابق ومستشار اقتصادي لرئيس الوزراء البولندي السابق دونالد توسك- أكثر حداثة وكفاءة واستقلالية (من كاتشينسكي) مقارنة بأسلافه في حزب العدالة والقانون، وفي خريف هذا العام، ستوفر الانتخابات العامة لعام 2023 فرصة جديدة لإعادة ضبط وإحياء المؤسسات الديموقراطية.
لا يمكن إنكار الأهمية الجيوستراتيجية لبولندا، وقد أدت استجابتها لحرب العدوان الروسية إلى تحسين مكانتها الدولية، ومع القادة الذين يُدركون الفروق الدقيقة والتعقيدات المرتبطة بالتعامل مع روسيا، يمكن أن تعمل كوسيط فعال لمصالح أوروبا المركزية والشرقية في بروكسل، ولمصالح أوروبا في العالم، لكن وكي تؤخذ بولندا على محمل الجد، يتعين عليها الدفاع عن القيم والحريات الديموقراطية في الداخل بالعزم نفسه الذي أبدته في وقوفها مع أوكرانيا.
* خبيرة سياسية ومستشارة أولى لنائب وزير خارجية جمهورية سلوفاكيا، وخبيرة اقتصادية سابقة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك المركزي الأوروبي.
* سونيا موزيكاروفا