من صيد الخاطر: مناظرة بديع الزمان والخوارزمي
حصلت مناظرة طريفة بين الخوارزمي وبديع الزمان اعتبرت من أشهر المناظرات الأدبية، بين أشهر من أوتي حيلة ودهاء لغوياً، وهي مناظرة ممتعة لمن له باع طويلة في اللغة والنحو، وأنا لست منهم، وسيعرف منها سبب إحراج بديع الزمان للخوارزمي، المناظرة طويلة سأختصر بعضها، ولكنها تحتاج الى التروي والتمعن في مقاصدها.
فمحمد بن العباس الخوارزمي، المعروف بالخوارزمي، هو الشيخ الأديب الشاعر، كاتب الرسائل المعروف في زمانه وعصره، وحتى لا يلتبس الأمر على البعض فهو غير محمد بن موسى الخوارزمي عالم الرياضيات المعروف.
أما بديع الزمان الهمذاني، فهو داهية عصره وزمانه، فَوُصِفَ بأنه يأمر الكلمات فتطيعه، ويلاعبها فترقص له، إنه صاحب المقامات المعروفة بمقامات بديع الزمان الهمذاني.
كان بديع الزمان آنذاك في بداية مسيرته الأدبية، وكان يسعى بكل عزم وجد ليثبت وجوده أمام كبار أدباء عصره ومنهم بالطبع الخوارزمي، أما الخوارزمي فكان علما في عصره، فهو شيخ أدبائه، فكانت فرصة لبديع الزمان استغلها للتعرف على الخوارزمي ومناظرته، ولإشهار نفسه في آن.
بدأت المناظرة بين الاثنين بحضور كثيف من فطاحل القوم وأدبائهم، فبادر الخوارزمي معلناً إحجامه عن مناظرة في الحفظ لكبر سنه، وقال لبديع الزمان: سأبادهك بدلا من ذلك، قاصداً لنتبارَ بيننا على سرعة البديهة في الرد.
فقال عريف المناظرة، إذاً فلتنسجا على منوال المتنبي:
أرق على أرق ومثلي يأرق.
بدأ الخوارزمي فقال:
فإذا ابتدهت بديهة يا سيدي فآراك عند بديهتي تتقلّق
مالي أراك ولست مثلي في الورى متموهاً بالترهات تُمخرق
فرد بديع الزمان: أراك قد وقفت بين قافات خشنة كل قاف كجبل قاف، فخذ الآن جزاء عن قرضك وأداء لفرضك:
مهلا أبا بكر فزندك أضيق واخرس فإن أخاك حي يرزق
– أبا بكر هو الخوارزمي
يا أحمقاً وكفاك تلك مصيبة جربتَ نار معرتي هل تحرق؟!
فقال الخوارزمي: لقد أخطأت في قولك أحمقاً فهو اسم لا ينصرف.
فرد بديع الزمان: لا نزال نصفعك حتى ينصرف وتنصرف معه، وللشاعر أن يرد ما لا ينصرف، وإن شئت قلت: يا كودناً، ثم قولك في البيت يا سيدي، ثم قلت تتقلق مدحت أم قدحت؟ فإن اللفظين لا يركضان في حلبة.
عندها تدخل عريف المناظرة قائلا: حسنا، حسنا، الآن قولا على منوال المتنبي: أهلا بدار سباك أغيدها، فقال بديع الزمان:
يا نعمة لا تزال تجحدها ومنة لا تزال تكندها
فرد الخوارزمي: هيه الكنود قلة الخير ولا تعني الكفر به، فقال الحاضرون: لقد صدق بديع يا أبا بكر، ألم تقرأ لقوله تعالى: «إن الإنسان لربه لكنود»، أي لكفور؟ عندها وجه الخوارزمي كلامه الى بديع الزمان وقال له بعصبية: لقد اكتسبتُ بعقلي وعلمي احترام وثناء أهل همذان، فما الذي اكتسبته أنت؟ فرد بديع الزمان مستهزئاً: أنت في حرفة الكدية، أي التسول، أحذق وبالاستماحة أحرى وأخلق، قاصدا بأن تسولك للأمراء وطلب عطفهم هو الذي أكسبك، ثم أنشد قول ابن الرومي:
رأيت شيخا سفيها يفوق كل سفيه
وقد أصاب شبيها له وفوق الشبيه
تدخل العريف وطلب منهما الإنشاد على منوال أبي الشيص:
أبقى الزمان به ندوب عضاض ورمى سواد قرونه ببياض
فأنشد الخوارزمي:
يا قاضيا ما مثله من قاض أنا بالذي تقضي عليه راض
ولقد بليت بشاعر متهتّك لا بل بليت بناب ذئب غاض
فسأله بديع الزمان: ما معنى قولك ذئب غاض؟ والغضا هنا نبات تأكله الإبل.
فسأله الخوارزمي محرجا: أأنا قلت ذلك؟ أم الذئب الغاضي الذي يأكل الغضا؟ رد بديع الزمان متهكما: استنوق الذئب وصار جملا يأكل الغضا؟ فرد الخوارزمي وقد أخذ منه الغضب مأخذه: لأتركنك بين الميمات، فسأله بديع الزمان: ما معنى الميمات؟ فرد الخوارزمي: بين مهدوم، ومهزوم، ومغموم، ومحموم، ومرجوم، ومحروم، فرد بديع الزمان وأنا لأتركنك: بين الهيام، والسقام، والسام، والبرسام «ورم يصيب ما تحت الصدر»، والجذام، والسرسام «ورم يصيب الدماغ»، والسينات: بين منحوس، ومنخوس، ومنكوس، ومعكوس، والخاءات: من مطبوخ، ومسلوخ، ومشدوخ، ومفسوخ، وممسوخ، والباءات: بين مغلوب، ومسلوب، ومصلوب، ومنكوب، انتهت المناظرة فتجمع الناس حول بديع الزمان وأعظموا عليه بالثناء والمديح والإكرام.
عاد الخوارزمي إلى داره وقد انكسر انكساراً شديداً، أما بديع الزمان فقد بلغت شهرته الآفاق بعد هذه المناظرة، والتي استعمل فيها كل ما أوتي من مكر ودهاء لغوي للإطاحة بغريمه شيخ الأدباء، وقد نجح في ذلك أيما نجاح.
ملحوظة: منقولة من التراث بتصرف.