سألته على عجاله: لماذا توقفت عن الكتابة؟ فأجاب: «شعرت أن كتاباتنا وأفكارنا ليست لها فائدة وبدون أي مردود»، حاولت أن أسمع منه أكثر، اعتدل في جلسته قليلاً وقال: «منذ أربعة أشهر قررت ألا أكتب، هل تعرف ماذا حصل؟ قال: لم أتلق أي سؤال لا من قارئ ولا من مسؤول ولا من مثقف؟ عندها أدركت أننا كمن يحرث في بحر واسع؟ يا أخي رفعنا الصوت واجتهدنا وبذلنا جهداً متواصلاً في البحث والكتابة، لكن ما نفع هذا الإنتاج وماذا حصدنا؟ صحيح أن الموضوع ليس مقتصراً على ثلاثة أو أربعة أشهر إنما منذ سنوات ونصف عمرنا قضيناه في البحث والتحليل والنقد والكتابة، فماذا كانت النتيجة؟».
قد تكون حالة الزميل والصديق د. عبدالحميد الأنصاري صاحب الفكر المستنير والآراء الجريئة ليست وحيدة، بل هناك ما يماثلها المئات من الحالات المشابهة، بمجرد أن تغيب عن الأعين تنساك الناس والقراء وحتى طبقة المثقفين الذين تربطك بهم علاقات وشراكات ومعرفة.
بعض أصحاب القلم والرأي والفكر أصابهم اليأس والإحباط من الخمول والسكون الذي يسود مجتمعاتنا، فلا شيء يحركهم أو يحفزهم على الإقدام على تغيير أحوالهم إلى الأحسن، ربما كان فساد السياسة أبعدهم عن ذلك وربما استشعروا أن التغيير لا بد أن يأتي من الأعلى وإلا سنبقى متلقين ومتفرجين عند غالبية شعوبنا التي طحنتها الأزمات المتلاحقة والمتكررة حتى وصلنا إلى مرحلة الاستسلام الكامل.
لن ندخل في معمعة السؤال الجدلي هل الدجاجة قبل البيضة؟ أم العكس، لكننا نتلمس أن غياب قوى الضغط المدنية والسلمية والداعية إلى الإصلاح والتغيير قد تكون أحد الأسباب الرئيسة وعدم إيمانها بالأنظمة الثورية والقومية واليسارية وبالدرجة الأولى بـ«الديموقراطية» التي تم تشويهها وإفسادها، لذلك نعود إلى ما نسميه المربع الأول، أي البحث عمن يحمل ويتحمل وزر الأفكار الإصلاحية والتنويرية؟
إذا كان الرهان على المثقفين قد سقط أو انتهى أو أفلس فتلك مصيبة بأن يخلو أي مجتمع منهم، حتى لو كان يعيش تحت ظل حكم غير ديموقراطي، وربما كان الزميل حسن العيسى من أكثر الكتاب أصحاب الفكر المستنير تشاؤماً فعنده أن الانسداد المستحكم بالقرارات الكبرى لا طائل منه، وأن الدعوات للمحاسبة والعدالة والمواطنة مشطوبة ومعطلة، فهو ومن يماثله ينفخون في «قربة مقطوعة»، وعليه تتعطل لغة الكتابة والفكر والإصلاح.
السؤال الأزلي: هل نكتب لمن لا يقرأ، أو بالأحرى نكتب لمن يقرأ ولا يتفاعل؟ بعضهم كالكاتب بشير الشمري يقول «المأساة أننا نكتب لمن لا يقرأ ونحكي لمن لا يسمع ونبكي لمن لا يرى» ثم يأتي آخر ويعطي الجملة بعدها الحقيقي، والمأساة الأكبر أنهم عندما يقرؤون ويسمعون ويرون لا يفعلون شيئاً، وقد يصل بعضهم أن يكتب الشخص لنفسه.
إذاً لمن تقرع الأجراس إن لم يوجد هناك من يسمعها؟ ولماذا نجهد أنفسنا بالكتابة؟ هل «للتنفيس» وهو تعبير سطحي غير عادل لفعل الكتابة؟
المشكلة أعقد من ذلك بكثير، ليس على مستوى أصحاب القرار بل أراها عند طبقة المثقفين والطبقة الوسطى التي يؤمل منها التجاوب والمشاركة والحركة، وقد تكون الكتابة عند بعضهم واجبا ومسؤولية وطنية قبل أي شيء آخر، وفوق ذلك متعة لا يضاهيها أي متعة في الدنيا، لكن المهم هو ماذا تكتب، فليس كل من قال عن نفسه إنه كاتب يعني أنه ذو فائدة؟
الكتابة تعني رفع مستوى الوعي بقضايا الناس والمجتمع والدول، وهذا أسمى ما نطمح إليه، فهل وصلت الرسالة؟