عالم الآثار كريستيان روبن لـ «الجريدة•»: ملوك «حمْيَر» حكموا شبه الجزيرة العربية وهم من اليهود
كريستيان روبن لم يكن غريباً على الكويت، فزيارته الأولى كانت في عام 1965 عندما وصلها مع أربعة عشر شخصاً ركبوا شاحنة وجلسوا فوق أكياس القمح، جاؤوا من الأردن، ووصلوا إليها لأيام، ثم أكمل هو طريقه إلى الخبر بالسعودية.
قبل سبع سنوات تجددت زيارته إلى أن كانت قبل أسابيع تقريباً، ليُلقي محاضرة بدعوة من دار الآثار الإسلامية حول أبرهة الحبشي.
تواعدنا على لقاء خاص لـ «الجريدة»، وحضر منذ يومين، وفي زيارة خاطفة، بهدف دراسة حوالي 100 قطعة أثرية تتعلق بتاريخ شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، ومعظمها من اليمن، والتي سيصدر عنها كتاباً مشتركاً تعاون فيه مع عالمة إيطالية تختص بالفنون، تُدعى سابينا أنطوني، وأخرى يمنية هي ليلى علي عقيلي متخصصة في الجواهر.
ونحن نجلس في بهو الفندق الذي ينزل فيه على شاطئ الخليج العربي، طلب من النادل أن يقدِّم لنا القهوة العربية التي يفضلها، فهو من خبر المنطقة جيداً، فقد عاش في لبنان نحو سنة عام 1964 أثناء دراسته للغة العربية ضمن بعثة لمعرفة الطقوس عن الطوائف المسيحية الشرقية، وكان ذلك في المعهد اليسوعي في بكفيا، وزار القدس عدة مرات بين عامَي 1966-1968 أثناء إقامته في الأردن، قادماً من لبنان، حيث أتم الخدمة العسكرية كمواطن فرنسي وهو في الأردن وأستاذ في المركز الثقافي الفرنسي (خدمة مدنية)، وعندما وقعت حرب 5 حزيران (يونيو) سنة 1967 كان في العاصمة عمَّان.
جاء الكويت أول مرة مع 14 شخصاً على ظهر شاحنة محمَّلة بالقمح في أوائل الستينيات
تخصصه كعالم آثار في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام قاده إلى اليمن عام 1972 أيام الحرب الأهلية، ومن هناك انطلقت رحلاته المتكررة نحو نجران، والتي يعرفها جيداً، ولا تمرُّ سنة إلا ويزورها مرة أو مرتين، وهي من وجهة نظره منطقة قبلية مهمة في التاريخ القديم، من حيث انتشار الإسماعيلية وسط قبيلة يام، كذلك منطقة همدان، وفيها قليل من الزيديين. وفي تلك المرحلة كانت الروابط القبلية أقوى من الانتماء الديني.
في اليمن، عمل كريستيان روبن كمدير للبعثة الأثرية الفرنسية (1978-1989)، وتولى مسؤولية المركز الفرنسي للأبحاث والآثار، والذي انتقل قبل سنتين إلى الكويت، ليغطي عدة دول خليجية.
تولى عدة بعثات للتنقيب عن الآثار في قتبان وتيغراي ونجران، وله إسهامات عديدة في دراسة النقوش والكتابات، وكذلك دراسات عن اليهود والمسيحيين في شبه الجزيرة العربية بالقرنين الخامس والسادس.
أبرهة الحبشي
سألته عن قصة «أبرهة الحبشي»، فأجاب: «شخصية معروفة تاريخياً، والمصادر المتداولة عنه كانت تقليدية، لكن مع اكتشاف النقوش الجديدة تغيَّرت كثيراً، فالقصة كما هي بالنقوش النمساوية تقول إن أبرهة أخذ العرش بالقوة ضد النجاشي والرومانيين، وبعد 15 سنة من الحروب والمواجهات انتهت إلى عقد مؤتمر جمع فيه قادة من الفرس والحبشة ووفود عربية، منهم منذر ملك الحيرة، والحارث بن جبلة ملك غسان، ملك العرب في الشام وأخوه أبوكريب بن جبلة. الآن هناك مصادر بيزنطية وقصص دينية عن حملة أبرهة ضد مكة استناداً إلى كتابات الطبري وغيره، والذي يصف أبرهة بشكل إيجابي، لكن منذ نهاية القرن التاسع عشر تم العثور على نقوش كتبها أبرهة بنفسه».
استوضحنا من عالم الآثار الفرنسي عن تعريف أبرهة، فقال: «هو ملك (حمْيَر)، ويُطلق عليه اسم (أبرهة الأشرم)، قائد عسكري لمملكة أكسوم، ثم أصبح ملكاً على (حمْيَر)، كما تولى حُكم بلاد الحجاز واليمن، وجنوده معظمهم كانوا من العرب، وعندما يُقال إن الحبشيين هجموا على مكة، فالتسمية هكذا غير دقيقة، وأبرهة أصله من الحبشة، لكن جنوده كانوا من مملكة حمير وكثير من العرب، وعندما هجم على مكة، كان معظم الجنود من قبائل عربية».
زارها عدة مرات ويعمل على دراسة 100 قطعة أثرية في دار الآثار الإسلامية مع علماء بالجواهر والفنون
وأضاف في رده على سؤال عن أهم الخلاصات التي وصل إليها، «كانت بعثة بلجيكية اكتشفت نقشاً في مريغان، وهي اسم قرية من تثليث في السعودية تبعد حوالي 200 كلم شمالاً، وفي هذا النقش صفة مهمة لغزوة أبرهة في منطقتين ومعركتين ضد قبيلة مُعَد، والتباس في معاني الكلمات، والذين اكتشفوا النص فهموا أن أبرهة نجح أو فشل، وكانت هناك صعوبات في ترجمة النص. أحد الإسرائيليين، واسمه كتسار، يقول إن هذا النقش يصف حملة أبرهة ضد مكة في عام الفيل، وتاريخ النقش يعود إلى ديسمبر 552 قبل الإسلام، أي بسبعين سنة قبل الإسلام، لكن عندما زرت المكان عام 2008 في مريغان وبهذا الوقت لم أجد النقش الأول البلجيكي، لكن وجدت نقشاً جديداً، والمدلول هنا مهم جداً، وأبرهة يفسر أنه سيطر على شمال الجزيرة، ويعطي لائحة بأسماء القبائل والمناطق التي بايعته، وهي: هجر، وخط، وهجر، اسم البحرين في ذاك الوقت، أي شرق الجزيرة ومنطقة الهفوف، والخط اسم ميناء، واليوم اسمه العقير، وأيضاً قبيلة طي ويثرب مدينة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وجُذام وسط تبوك، والعقبة، وهذا يعطي ضوءاً جديداً، من خلال هذه النقوش، أن أبرهة لم يفشل، ونجح نجاحاً كبيراً».
خبر نجران جيداً منذ عام 2006 واشتغل في الآثار باليمن مدة 40 سنة
ووفق قراءة علماء الآثار بالمنطقة، فإن أهم استنتاج يتم تداوله أنه لا يوجد أي دليل حتى الآن يربط أبرهة الحبشي مع الفيلة، ويشيرون إلى أنه في عام 2014 استطاع فريق التنقيب عن الآثار (فرنسي – سعودي) اكتشاف نقش عربي حفر بالصخر ما بين عامي 469-470 وصف بأنه أقدم نقش بالأبجدية العربية، وهو الفصل الأخير من أول وآخر مملكة يهودية نشأت في الجزيرة العربية، وهي مملكة «حمْيَر».
اليهودية والمسيحية
ونظراً لاشتغاله مدة 40 سنة باليمن، و17 سنة في نجران، بمجال التنقيب عن الآثار والنقوش واكتشافاته المتتالية وإصداراته عن تاريخ اليهود والمسيحيين في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، سألته عن تلك المرحلة، فأجاب: «إن ملوك مملكة حمْيَر في القرن الرابع، أي بين 380-530، كانوا يهوداً، وفي شبه الجزيرة العربية سيطروا على كل المناطق المحيطة بها، انتهت هذه المملكة على يد الأحباش، بقيادة النجاشي، ملك أكسوم حوالي سنة 500م، وهي مملكة مسيحية. أما في اليمن، فكانت هناك 3 ممالك، سبأ وحمْيَر وحضرموت، وفي نهاية القرن الثالث الميلادي، حوالي 300م، كان اليمن موحداً تحت قيادة وسيطرة (حمْيَر)، وفي القرن الرابع شنوا هجمات على معظم المناطق، وأحكموا سيطرتهم على شبه الجزيرة العربية 420م».
درس في «اليسوعية» بلبنان وزار القدس عدة مرات وأتم الخدمة العسكرية وهو في الأردن
رد على كمال الصليبي
وفي سؤال عن علاقة اليهود بشبه الجزيرة، ورأيه بكتاب د. كمال الصليبي (التوراة جاءت من جزيرة العرب)، ونظرية التشابه بأسماء المواقع الجغرافية، أجاب: «يمكن أن تكون هناك أسماء جغرافية مشتركة مع قبائل عاشت في شبه الجزيرة العربية، لكننا من غير المنطقي ولا المعقول، القول إن اليهود الموجودين الآن في إسرائيل من شبه الجزيرة أو حتى من فلسطين، لمجرَّد تشابه بعض المسميات الجغرافية. هناك نهر أو وادي اسمه النيل في اليمن، وفي مصر وادي نهر النيل، هل هذا يمنحنا القول إن المصريين جاؤوا من اليمن؟ نتحدث عن ملوك (حمْيَر) وهم ملوك الجزيرة العربية، والتي حكموها لنحو 15 سنة، وينتمون للديانة اليهودية، كما توجد قبائل في هذه المملكة من الديانة المسيحية، وهناك عرب أيضاً، وهؤلاء - أي ملوك (حمْيَر)- حكموا 80 سنة وقت قيادة أبرهة الحبشي، وهو مسيحي من أصل حبشي، وعلينا أن نعرف أن اليهود الذين كانوا في يثرب هم عرب».
ويضيف السيد كريستيان، ما وددت أن أوضحه، أن النقوش عندما يكتبها الملوك والحُكام تُعد دعاية سياسية، والقائد أبرهة الحبشي له نقوش وكتابات واضحة في هذا الشأن، علماً بأن شبه الجزيرة العربية في ذاك الوقت كانت فقيرة، ومعظم ساكنيها كانوا من المسيحيين واليهود والفرس والعرب.