«التحريات المالية»... ثغرة رقابية في «حرب المخدرات»
• مواجهة الجريمة يجب أن تتخطى الاكتفاء بالخيار الأمني إلى التتبع المالي والتطور التكنولوجي
• الوحدة تعاني عدم وجود رئيس بالأصالة وضعف عمودها الفقري مكتب التفتيش والتدقيق
بينما تتوالى أخبار ضبط وزارة الداخلية كميات غير مسبوقة من المخدرات خلال الأشهر الماضية، تبرز على الساحة تساؤلات حول مدى قدرة الأجهزة غير الأمنية، خصوصاً المالية، في القيام بدورها بمواجهة ما يبدو أنه حرب على الكويت وشبابها.
فدول العالم لم تعد تواجه الجريمة المنظمة، لا سيما المخدرات، بالعقلية الأمنية القديمة، إنما من خلال اتباع آليات مرتبطة بتتبع حركة الأموال المشبوهة الناتجة عن جرائم متعددة، كتجارة المخدرات والسلاح والبشر وتهريب الآثار والرشوة وانتحال الشخصية والاختراقات المالية والأموال المزيفة والفساد وتمويل الإرهاب وغيرها، بهدف تجفيف مواردها ومصادر تمويلها وتقييد حركتها وكشف مسارات غسلها، من خلال تفعيل أجهزة ما يعرف بالمباحث المالية التي تسمى في الكويت «وحدة التحريات المالية».
جدوى التتبع المالي
وتشير بيانات الهيئة الدولية لمراقبة تجارة المخدرات التابعة للأمم المتحدة، إلى أن عمليات التتبع المالي أفضت إلى كشف غسل كارتيل «سينالوا» المكسيسكي لـ 881 مليون دولار عام 2012 في بنك «hsbc» الذي فرضت عليه غرامات فيما بعد بـ 1.92 مليار دولار مع إخضاعه للرقابة التنظيمية لمدة 5 سنوات، كما كشفت عمليات غسل أموال مجموعة متعددة من الجرائم تحت مسمى «نموذج فانكوفر» الذي كانت المشاريع العقارية في المقاطعة الكندية غطاء لعمليات مجرمة تجاوزت قيمتها ملياري دولار، علاوة على سقوط العديد من عصابات المخدرات حول العالم، من خلال تتبّع حركة أموالها غير المشروعة.
الكويت خرجت من تصنيف مؤشر «بازل» لمكافحة غسل الأموال رغم وجود دول كطاجيكستان وموزمبيق ولاوس وبنين
نورد هذه الأمثلة للتدليل على أن مكافحة الجريمة، لا سيما المخدرات، لم تعد مرتبطة فقط بالمعلومات الأمنية الصرفة أو المطاردات أو «الكبسات» أو غيرها، إنما من خلال تطوير منظومة غير تقليدية تضع في اعتبارها أوزاناً للخيار الأمني والبعد المالي، إلى جانب التطور التكنولوجي، كي تكون منظومة نافعة في تطويق الجريمة، التي تطورت آلياتها وأشكالها خلال العقود الأخيرة.
تعامل قاصر
ومع أن الكويت مرت خلال السنوات القليلة الماضية بمجموعة شبهات وجرائم غير معهودة في تاريخ البلاد تتعلق بغسل الأموال والسرقات والاختلاسات في القطاعات الأمنية والعسكرية والأجهزة المالية والاقتصادية والمؤسسات التشريعية والقضائية حتى شملت الشبهات مشاهير «السوشيال ميديا» ونواباً ووزراء وقضاة، فإن التعامل مع ملف العمليات المالية المشبوهة المرتبطة بالجريمة يبدو قاصراً، وأقل من المطلوب، خصوصاً أن العديد من القضايا كشف عن تضخم غير مبرر ولفترات زمنية طويلة لحسابات المتورطين فيها دون أن تطالهم عين الرقابة المالية.
فالجهاز المكلف تتبع قضايا غسل الأموال ومكافحة الإرهاب في البلاد بنص القانون رقم 106 لسنة 2013 أي «وحدة التحريات المالية» يعاني، مثل غيره من مؤسسات الدولة، من إهمال الجهاز التنفيذي ليس فقط لعدم تعيين رئيس أصيل للوحدة منذ أبريل عام 2018 - عدا فترة 6 أشهر عين فيها باسل الهارون رئيساً للوحدة قبل انتقاله لمنصب محافظ بنك الكويت المركزي العام الماضي - بل أيضاً لقصور جهازها التنفيذي في القيام بأعماله.
الحكومة شكلت عام 2020 لجنة لدراسة تعديل قانون وتطوير وحدة التحريات وإلى الآن لا توصيات ولا نتيجة
مؤشر بازل
فحسب تقرير لديوان المحاسبة، يعاني مكتب التفتيش والتدقيق في الوحدة عدم وجود عدد كافٍ من الموظفين القادرين على القيام باختصاصات المكتب، الذي يعد العمود الفقري لعمليات الوحدة، وهذه أوضاع من غير المستغرب حيالها أن يتدهور ترتيب الكويت في مؤشر معهد «بازل» لمكافحة غسل الأموال من مستوى 90 عام 2017 إلى الخروج من المؤشر تماماً عام 2021 رغم أن المؤشر لايزال يضم دولاً مثل طاجيكستان وموزمبيق وغينيا بيساو ولاوس وهايتي وبنين.
بل إن الحكومة نفسها تناست قرار وزير المالية الأسبق براك الشيتان ووزير الدولة الحالي لشؤون مجلس الوزراء في يوليو 2020 الخاص بـ «تشكيل لجنة لدراسة أوجه القصور في التشريعات القائمة واقتراح التعديلات المناسبة لرفع كفاءة وحدة التحريات المالية وتدعيم استقلاليتها وتعزيز صلاحياتها وأدواتها»، ومنذ ذلك الحين لم يصدر عن اللجنة أي خبر أو معلومة أو تصريح أو تقرير عن انتهاء أعمالها أو وضع توصياتها ودراستها لتعديل القانون.
لا رئيس ولا موظفين
وحسب التقرير السنوي لوحدة التحريات المالية خلال 2020 -2021 فإنها تلقت 2413 إخطاراً أحالت 102 بلاغ منها إلى النيابة العامة أي بنسبة 4.2 في المئة من إجمالي الإخطارات التي تلقتها الوحدة، في حين أن إجمالي البلاغات إلى النيابة العامة خلال 3 سنوات بلغ 322 بلاغاً من إجمالي 5159 إخطاراً وبنسبة 6.2 في المئة.
عمليات التتبع المالي أفضت إلى سقوط العديد من عصابات المخدرات حول العالم
وتشير البيانات أعلاه إلى الوضع الإداري غير السليم لوحدة التحريات المالية من جهة عدم تعيين رئيس أصيل لها بما يضعها غالباً تحت الضغوط والمجاملات، وربما الابتزاز وأيضاً محدودية حجم الجهاز الفني المكلف دراسة ومراجعة البلاغات في الوحدة.
خطورة التهاون
منذ سنوات ثمة اعتقاد لدى الأوساط المالية بأن الإهمال والتراخي في عمل وحدة التحريات المالية يتجاوز الإهمال الإداري المعتاد في الكويت، إلى شكوك منطقية بوجود تخريب متعمد لشل قدرات الوحدة.
وفي الحقيقة، فإن التهاون في مسألة رفع كفاءة التحريات المالية لتكون قادرة على التصدي للجرائم والعمليات المالية المشبوهة ستفضي إلى زيادة استهداف الكويت ليس فقط من عصابات الجريمة وتجارة المخدرات وغيرها، إنما أيضاً من منظمات ودول تلتفّ على العقوبات والقيود الدولية عبر بوابة التهاون الكويتي مع ملفات التتبع المالي مما ينهك أجهزتنا الأمنية في معركتها مع تجار المخدرات ويجعل الكويت عرضة للضغط الدولي.