مع استعار معركة صانعي السياسات النقدية حول العالم ضد التضخم وفشلها في الحسم، حتى الآن، بدأ المراقبون يعمدون إلى قياس معدلاته بوسائل أكثر تدليلاً ويستدعون مؤشرات أكثر لطفاً وقابلية للفهم بعيداً عن تعقيدات المصطلحات والاستدلالات الاقتصادية النمطية.

وكان أول ما استدعاه المراقبون، في ظل هذا الظرف الاقتصادي الاستثنائي، هو «بيغ ماك إندكس»، المؤشر المالي الذي اخترعته مجلة ذي إيكونوميست عام 1986 لقياس الصحة الاقتصادية عن طريق قياس الأسعار المتفاوتة لعناصر وجبات «ماكدونالدز»، وهو دليل سريع ولطيف، لقياس أداء العملات وما إذا كانت دون أو فوق قيمتها العادلة، من خلال مقارنة أسعار هامبرغر «بيغ ماك» في عدد من دول العالم.

Ad

وبعكس القياس التقليدي للتضخم الذي يقارن «سلات» من السلع في شهر معين مع النوعية ذاتها في الشهر السابق، يتم قياس أسعارها في السوق بعمليات معقدة، تم تبسيطها بسندوتش «البرغر» ومكوناته، من دقيق ولحوم وزيوت وغيرها.

وتعتمد طريقة قياس المؤشر على أن تعادل القوة الشرائية له تمثل سعر الصرف الذي يجعل تكلفة الهامبرغر موحدة في جميع أنحاء الولايات المتحدة كما هو الحال في أي مكان آخر. فإذا ما تمت مقارنة ذلك مع المعدلات الفعلية لأسعار الصرف في حالة أن حظيت العملة بتقييم أعلى أو تقييم أقل. وعلى سبيل المثال فإذا كان معدل سعر الصرف بين الولايات المتحدة وكندا 1.57 فإن تكلفة وجبة البيغ ماك في الولايات المتحدة ستقدر بنحو 2.49 دولار، بينما ستبلغ تكلفتها 3.33 دولارات في كندا، بالعملة المحلية وهي الدولار الكندي. وبناء على ذلك، ففي هذه الحالة نجد أن قيمة سعر الصرف للدولار الأميركي والدولار الكندي قد تزايدت بواقع 15 في المئة أي 1.34 نقطة.

ومع نجاح «بيغ ماك إندكس»، استحدثت «الإيكونوميست» متغيرات فرعية مثل «كوب القهوة اللاتيه الكبير» الذي يقيس مستويات الأسعار وفق سعر فنجان قهوة ستاربكس. وتم تطوير المؤشر عام 2019، ليشمل قهوة اللاتيه في 76 دولة حول العالم.

واتساقاً، بدأ المواطنون في الكثير من دول العالم يقتنعون أكثر في المؤشرات غير الرسمية، ففي الولايات المتحدة مثلاً، كانت الملابس الداخلية للرجال مؤشراً على حالة التضخم، حيث انخفضت مبيعاتها في عامي 2008 و2009 وسط الأزمة المالية العالمية، وتراجع الرجال عن استبدالها مهما كانت حالتها، ومع ارتفاع الثقة في الاقتصاد الأميركي عادت إلى الارتفاع.

ومع استساغة هذا النوع من المؤشرات، تفتقت المخيلة المصرية عن مؤشرات من مطبخها كـ «البانيه»، كمعادل لوجبات الماك أو البرغر في الاستدلال على نسبة التضخم، والذي ارتفعت أسعاره خلال شهر ونصف الشهر فقط من مستوى 100 و110 جنيهات لمستوى يتراوح بين 185 و200 جنيه حسب المنطقة الجغرافية ومستواها الاجتماعي والمادي.

وحسب بيانات السوق، فقد ارتفعت مكونات وجبة «البانيه»، فسجلت أسعار البيض ارتفاعات مستمرة على مدار الأسابيع الأخيرة لتلامس الكرتونة ببعض المناطق مستوى 150 جنيهًا بما يعادل 5 جنيهات للبيضة الواحدة. بينما بلغ سعر زجاجة الزيت القلي سعة 800 ملي 60 جنيهًا، وسجل سعر كيلو الدقيق حاليًا بين 18 و32 جنيهًا حسب النوع.

ومع تزايد هذه النوعية من المؤشرات «المطبوخة» ومحاولة قياس وتوصيف التضخم ومعدلاته، ظهر، في مصر أيضاً، «كشري إندكس»، وهو الوجبة التي تعد جزءاً أصيلاً من الثقافة الشعبية المصرية، بصرف النظر عن جدلية منشأها، وذلك بعد ما نشر موقع وكالة بلومبرغ الأميركية مؤخراً تقريراً مفصلاً يتضمن رسوماً بيانية أطلق عليها اسم «مؤشر الكشري للأسعار»، أظهر أن متوسط أسعار المكونات لطبق واحد ارتفع 58.9 في المئة على أساس سنوي في ديسمبر، أي نحو 3 أضعاف معدل التضخم في المدن المصرية البالغ 21.3 في المئة، ليتحول الطبق الشعبي من سلعة ضمن آلاف السلع التي تأثرت بالتضخم ولم تسلم من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، رغم رخص ثمنها، إلى مؤشر يدلل على التضخم ويقيسه لا يخلو من الطرافة وخفة الظل.

وفي التفاصيل التي ذكرها تقرير «بلومبرغ»، يجسد ارتفاع تكلفة الطبق الشهير أكبر التداعيات السلبية غير المباشرة للغزو الروسي لأوكرانيا. فقد تأثر اقتصاد مصر، وهي مستورد رئيسي للقمح وسلع أساسية أخرى، بشكل كبير بسبب ارتفاع تكلفة الاستيراد خلال العام الماضي، وساعدت سلسلة من التخفيضات في قيمة العملة في التعامل مع أزمة النقد الأجنبي، لكنها ساهمت في رفع أسعار العديد من المنتجات الغذائية أكثر من أي وقت مضى.

كما فنّد التقرير أسعار مكونات الطبق التي ارتفعت بحدة خلال الفترة الماضية. فعلى سبيل المثال قفز سعر العدس بنسبة 66.5 في المئة وصعد سعر الأرز بنسبة 89 في المئة. كذلك ارتفعت أسعار المعكرونة وزيت الطهي، التي تعد من بين السلع التي تدعمها الدولة، بنسبة 75%.

وقد تبدو تلك النوعية من المؤشرات قادرة على قياس نسب التضخم الحقيقية وأسعار الصرف بشكل أكثر قابلية للفهم، بعيداً عن تعقيدات الفوركس، وقياس أزواج العملات، إلا أنها من الناحية الاقتصادية، لا تعدو كونها قياسات، ليست في دسامة مكوناتها، لتوصيف حالة أسواق معينة والقوة الشرائية لبعض فئاتها، والتدليل على تسعير سلع بعينها قد تختلف باختلاف الأسواق والمستهلكين، إذ تنطوي مكوناتها على مبررات عدم قابليتها لقياس التضخم بشكل دقيق، بعكس أرقام التضخم الصادرة من البنوك المركزية والتي تعتبر الأكثر مصداقية، ويمكن الاعتداد بها باعتبارها نتائج معممة على عكس الأمور المتعلقة بالطعام فقط، والتي تفتقد بعض الموضوعية في الحكم على الأمور.

فعلى سبيل المثال نجد أن مؤشر «بيغ ماك» قد يكون منخفضاً في بلد ما بسبب توافر مكونات صناعته محليًا من القمح والدواجن والزيوت، لكن في بلد اخر قد يرتفع بسبب استيرادها، إضافة إلى عوامل أخرى تتعلق بقيمة الوجبة من دولة أخرى ومن سوق إلى آخر، وكذلك عند مقارنة السعر الحقيقي لمنتج «ماكدونالدز» حول العالم، بناءً على سعر الصرف لكل دولة على حدة.

الأمر نفسه ينطبق على «البانيه» التي تحتاج لسلسلة من المكونات معها حتى تصبح صالحة للاستهلاك. أي أنها تمثل سلة من السلع تتضمن: البيض والدقيق والزيت، وهي في النهاية وجبة قد تتوافر بشكل يومي عند فئات من المستهلكين، بعكس الكشري مثلاً، والذي في متناول جميع فئات الشعب المصري، إلا أنه ورغم ذلك فهو الآخر لا يصلح للقياس، فهو الطبق الأكثر تنوعًا من حيث المكونات حيث يحتوي على نحو 10 سلع، لكل سلعة ظروفها ومحددات أسعارها، قد تتأثر بعضها بظروف اقتصادية لدول المنشأ أو بعوامل جيوسياسية تتعلق بتكلفة الاستيراد، ومن ثم تؤثر على أسعارها، أضف إلى ذلك التفاوت الواضح في اختلاف أسعاره من منطقة إلى أخرى حسب فئات المستهلكين وتغير سلوكياتهم الطارئ خلال السنوات الأخيرة.

في النهاية، يبقى «الكشري» طبقًا للغلابة، وجزءًا أصيلًا من الثقافة الشعبية المصرية، وكغيره من الأطباق الشعبية حول العالم، يجب أن يبقى بعيدًا عن قياسات التضخم ومؤشراته، ومُحصنًا ضد التطورات الجيوسياسية وتداعياتها، وآمنًا من الأزمات الاقتصادية وآثارها.