الصداقة وطن *
المساء موحش بعض الشيء، ربما هي حالة هذه الفترة من اليوم في كل بقاع الأرض، لكنها هنا تبدو أكثر وحشة، فقد عدت للتو تبحث بين بقايا صور (مدركا أن الرائع حنا مينه هو أول من شدك للتعبير) وتنفض غباراً تراكم لسنين فوق طبقات الذاكرة المزدحمة، فليست ذاكرة الآلة الكاتبة هي التي تصاب بتزاحم المواد فقط، بل ذاكرة الإنسان التي تملؤها الذكريات وكثير من الأحداث المتلاحقة وبعض الفرح!!!
لا يزال المساء موحشاً وأنت تنبش الذاكرة في زوايا المنزل أو أركان المدينة التي تعرفها، وتغيرت بفعل هذا وذاك، وربما كثير من قلة التخطيط، حتى الرائحة تأتيك من هنا وهناك تذكرك بهم بمن رحلوا بعيداً وبآخرين ابتعدوا ولم يرحلوا أو هم قريبون لكنهم أكثر بعداً من الموتى الحاضرين دوما!!! هناك كثيرون يعيشون حيوات متعددة بعد موتهم، وآخرون ينتهون مع كومة من الرمل ترمى فوق شبر من الأرض.
تكثر أسئلتهم وهي كثيرة من دون تفاصيلك الجديدة-القديمة، كيف ترى نهاية العمل؟ وإلى أين تتجه؟ وماذا ستفعل؟ و... و...؟ علامات كثيرة كلها استفهامية، وأنت لا تملك أية إجابة عن رُبع تلك التساؤلات، ومع ذلك تستمر في الابتسامة محاولا إقناع نفسك أن السؤال علامة من علامات الاهتمام بك وبمصيرك وخوفاً عليك وعلى ماضيك ومستقبلك، بل قدرتك العقلية، نعم ألم يفقد فلان وفلانة عقليهما أو أصيبا بمرض الموضة «الزهايمر»؟؟؟
كلما كثرت الأسئلة توقفت أنت لتؤكد لنفسك: معهم حق، فالتخطيط للحياة والمستقبل مهمان للإنسان، ثم تلتفت حولك لتبحث عن شخص منهم يقوم بالتخطيط الفعلي فلا تجد سوى تلك الحفنة من البشر التي أتقنت وتتقن تخزين المال، فالقرش الأبيض لليوم الأسود، قالوا هذا فقط، ما أبرع بعضهم في التخطيط له، أما كل الأمور الأخرى فدع الخلق للخالق أو اترك قدرك لله، فهو خلقك وبالطبع سيأتيك بالرزق والخير والفرح والسعادة والصحة أيضا، نعم يطلبون من الله أن يكون وزارة متكاملة في حين حكوماتهم تتخلى عنهم تدريجيا وتتركهم فريسة سهلة للمرابين والفاسدين وعابري الحدود والمهربين بأسماء مختلفة، والمرتشين وحاملي الألقاب والمناصب والمنافقين، من الضرورة ألا ننساهم فهذه أكثر المهن انتشارا في هذه المرحلة، والكذابين الذين يعيدون الكذبة حتى يصدقوها هم، في حين كل البشر تنظر لهم إما نظرة السخرية أو الغضب!!
تبحث بين الصور والروائح والزوايا عن ذاك الذي يقال عنه وطن، فتضيع أو يضيع هو في تفاصيله الجديدة، وكثير منها لا يشبهك ولا يشبهه هو، كيف تصبح الأوطان مجرد مراكز تجارية وأوتوسترادات ومطاعم، نعم كثير من المطاعم، فهي علامة من علامات التمدن، بل التحضر كما يراه أهل النفط ومن مثلهم!!! لكنك لا تيأس، ألم يعلموك في الصف الثاني أو الثالث أو الرابع ابتدائي، ألا تتذكر الآن القول «لا يأس مع الحياة»؟ نعم كرروه حتى حفظته «صم» وعن ظهر قلب، فتحول إلى كليشيه يردده الكثيرون دون إدراك أو وعي بمعناه أو تفسيره أو ارتباطه بواقع مقيت ومظلم بعض الشيء.
فقط هم الأصدقاء والصديقات الذين يبقى بعضهم كما كنتم قبل سنين في لحظة الفراق تلك، تلتقون وهم معك تعملون على ترميم الماضي عبر إعادته حتى كوب شاي الحليب أو سندوتشات الجبنة المحمصة ببعض أو كثير من الزبدة المعتقة، وبعدها فنجان قهوة بالهال، وما بينها كثير من «السوالف» القديمة التي خزنتموها في ذاكرتكم، بل في متحف أو مخزن الصداقة، تفتح تلك الجلسات فضاءات لذكريات تعيد بعض جمال الوطن الذي كان، وتعود لك ولهم ضحكة الطفولة ببراءتها، وفي تصوركم أنكم نسيتموها مع كثرة الهموم والمشاكل والانتكاسات وخيبات الأمل في الوضع العام أو الخاص.
يرحل الأصدقاء ولكن تبقى صورهم، بل يعملون على إرسال مزيد منها، تضحك كثيرا على تسريحات الشعر واللبس بين الفتيات والصبيان عندما كان الفكر الاشتراكي والمساواة والقيم والمثل هي من تحرككم، وإلا فكيف رفضتم الإسراف على حفل زواج وهناك من يموتون جوعا في إفريقيا بينما اليوم هز زلزال أرض سورية وتركيا وأنزل المنازل على سكانها، واستمروا هم وآخرون مثلهم في حفلاتهم وبذخهم، وما بينهما يرسلون بضعة دولارات للمتضررين ويستمرون في حفلات البذخ؟
يفقد الوطن بريقه، بل يبعد حتى تصير سائراً خلف سراب، ويبقى الأصدقاء والصداقات هي وطنك، ربما في مثل زمن كهذا.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.