شقاء أهل العقل
يُعد كاتب جريدة الأتلانتيك، الأستاذ بجامعة هارفارد، آرثر بروكس، أحد روّاد فلسفة السعادة، وقد نصح الناس بتقبّل واقع الحياة الإنسانية بكل جمالها وقبحها.
ففي مقاله الأخير، صوّر لنا آرثر فكر الروائي الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو في «أسطورة سيزيف» أن كامو كان داعيةً لتقبّل عبثية الوجود، فرغم أن الحياة لا معنى لها، الإنسان فيها يُولد ويعاني ثم يموت، فإنّ تقبّل عبثية هذه الحياة يعدّ انتصاراً للسعادة. سيزيف ملك «أفيريا» الذي خدع الموت مرتين لعشقه الحياة، عاقبته الآلهة بعذاب أبدي بدفع الصخرة لأعلى الجبل لتتدحرج من جديد ويعود لدفعها إلى ما لا نهاية.
بهذه المشقة اللامتناهية وجد سيزيف بطل الأسطورة معنى الحياة، فمن عبثية المعاناة بالحياة يمكن للبشر أن يتقبّلوا مرارة أوقاتهم الصعبة.
مثل فكر فيلسوف الوجودية العبثية كامو نجد معتقد البوذية وفلسفتها يقوم على الفكرة ذاتها، فالحكمة النبيلة الرابعة عند البوذيين هي أن الحياة معاناة، وبقدر تقبّل البشر لهذه المعاناة وتأقلمهم معها عبر التفكير التأملي يمكنهم تجاوز مرارة الوجود وخلق السعادة.
لكن ليس كل الناس يفسرون الحياة كعبث لا طائل منه، فالأمر يتوقف على «طبقة وثقافة» البشر، فئات الفلاسفة والمفكرين والمثقفين الجديين يرون، بصورة أو أخرى، تلك العبثية (Absurdism) في أقسى أشكالها، أما العمال الذي يشقون في حيواتهم لكسب رزقهم فليس لديهم رفاهية التأمل الفلسفي لمعنى الحياة وحكمتها، لكنّ طبقة المرفّهين الذي يحيون بثقافة القطيع ويرون الدنيا من خلال مرآتهم الذاتية، فكل الأمور عندهم «تمام التمام».
فمثلاً لا يوجد عند القطيع المرفّه ما يقلق في الدنيا، التي هي عبارة عن أسئلة وأجوبة سهلة موجزة في حقائق أبدية مطلقة، مثلها مثل القواعد العلمية التي قطعت بها التجربة العملية والقياس العقلي، لا تتغير مع الزمان - المكان، ومَن يخرج عن ناموس القطيع، فهو منحرف وعاق. مثل ذلك الفكر الساذج نجده عند عدد من دعاة الصحوة الإسلامية. الراحل فؤاد زكريا وصفهم مرة بأنهم يقدّمون أسهل الأجوبة لأصعب الأسئلة.
مشكلة متعبة نفسياً أن تشعر بالغربة والوحدة بين أهلك وفي وطنك، كيف يمكنك أن تهضم الجدل مع إنسان (من القطيع المرفّه) دائماً يمدح ويهلل ويزهو ويكتب ببلاهة غياب العقل النقدي، ولا يرى غير أن كل أمورنا رائعة وجميلة، ولا مكان لديه غير ثقافة الامتنان للحال الواقع حين يمارس هذا عبر المدح السياسي الأجوف و«العجاف» الدائم للسلطة ما دامت هي «سلطة» حالية، لا تستطيع النقاش مع هذا «العقل» المنغلق والسذاجة الفكرية على خرافة الكمال الوجودي صاحبة شعار إننا أبداً أفضل من غيرنا، وقولوا الحمد لله.
يذكّرنا ديفيد بروكس بمقولة لفيلسوف الوجودية الأول في القرن التاسع عشر الدنماركي كيركجارد (أو كيركجور كما يترجمه د. عبدالرحمن بدوي) «كلّما زاد وعي الإنسان زاد معه شقاؤه»، قبل هذا الفيلسوف قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وما أكثر جماهير الجهالة اليوم!