علوم البيئة كحركة تنوير جديدة
لقد قادتنا أفكار التنوير في ما يتصل بالمنطقية العقلانية العلمية والهيمنة التكنولوجية إلى حافة الهاوية، وما لم نحتضن حركة تنوير جديدة- حركة تضع البيئة والرعاية في صميمها- فلن نجد سبيلا للعودة.
الواقع أن حركة التنوير التي رسخت جذورها في القرن الثامن عشر في أوروبا نَـحَّـت جانبا المعايير والنماذج القديمة ووعدت بمستقبل بلا حدود، وتصور الأفراد أنهم أحرار في تولي المسؤولية عن مصائرهم وعِـتق أنفسهم من أغلال الدين، والتقاليد، والطبيعة، فستحررهم المنطقية العقلانية من التعصب والندرة، بما يبشر بعالَـم جديد من الوفرة السلمية، والمساواة، وحقوق الإنسان العالمية.
بيد أن تجربة القرن العشرين تشير إلى أن هذه الرؤية، رغم أنها جديرة بالثناء من نواح عديدة، كانت معيبة بشدة وتتحمل بعض المسؤولية عن سلسلة من التدهور البيئي والقتل على نطاق صناعي، ولا يزال منطق الازدواجية الزائفة المدمر بين الإنسان والطبيعة يهدد حضارتنا.
لكن حركة التنوير الجديدة كفيلة بالتغلب على هذا المنظور المزدوج، من خلال تمكيننا من إعادة النظر بعمق في واجباتنا الأخلاقية تجاه الحيوانات وأجيال المستقبل، وتحويل الكيفية التي نسكن بها الأرض. بدلاً من التفكير في أنفسنا ككيانات منفصلة عن الطبيعة، يجب أن ندرك أننا جزء لا يتجزأ منها، وأن حتى تصرفاتنا الأكثر بساطة تخلف عواقب بعيدة المدى.
أيا كان ما نأكله، وأينما كنا نعيش، وكيفما نعمل، فإننا نعتمد على النظم البيئية والكائنات الحية الأخرى، يجب أن تنتج حركة التنوير الجديدة عَـقداً اجتماعياً جديداً يعكس فهماً واضحاً لهذه التبعية، من خلال التأكيد على حماية المحيط الحيوي وتحقيق العدالة البيئية للناس جميعاً والحيوانات.
يجب أن يكون فهمنا لحالتنا الأرضية- الضعف الذي يربطنا بغيرنا من الكائنات الحية والطبيعة- عنصراً مركزياً في حركة التنوير الجديدة، وبدلاً من التركيز على وجه القصر على حرية الإنسان، يتعين علينا أن ندرك الدور الذي تؤديه الجسدية، والسلبية، والاتكالية المتبادلة في تعريف الحالة الإنسانية. ببساطة، يجب أن تكون حركة التنوير الجديدة قائمة على علوم البيئة.
وفقا لأصل الكلمة اليوناني، يجسد مصطلح «علوم البيئة» منطقية (logos) مسكننا الأرضي (oikos)، والذي ينطوي دائماً على ضرورة التعايش مع آخرين، وعلى هذا فإن علوم البيئة لا يمكن اختزالها في اعتبارات بيئية، مثل تغير المناخ، أو التنوع البيولوجي، أو التلوث، فهي تنطوي أيضاً على بُـعـد اجتماعي يتطلب العدالة في توزيع الموارد وإدخال بعض التغييرات على أنماط الإنتاج، كما أنها تشمل بُـعداً وجودياً، لأنها تتطلب فهماً عميقاً لأنفسنا ومكاننا في الطبيعة.
تتعارض علوم البيئة مع استغلالنا الجامح للعالَـم الطبيعي وفشلنا في التعرف على ضعفنا ومحدوديتنا، وعندما يقترن إنكار حالتنا الفانية الضعيفة، جنبا إلى جنب مع هوسنا بالسيطرة، بالمنطقية العقلانية الذرائعية، يُـفـضي هذا إلى تحويل ممارسات الحياة العادية- العمل، والتناسل، والحكم- إلى ضروب من الحرب، وما لم نعترف بشكل كامل بالحدود التي تقيدنا، فسيكون من المستحيل تقييد حقوقنا على النحو الذي يمنعها من التحول إلى رخصة لفعل كل ما يحلو لنا.
من الواضح أن حركة التنوير الجديدة يجب أن تقودنا إلى إعادة النظر في الزراعة والدور الذي يضطلع به العمال العاديون في خلق مجتمع أكثر رعاية واهتماما. منذ عصر التنوير، اخـتُـزِل التقدم البشري تقليديا في الإبداع التكنولوجي والتوسع الحضري. كان الفلاسفة اليونانيون القدماء يعتقدون أن النظام السياسي نشأ في المدينة (polis). وانتقد كارل ماركس في بيانه الشيوعي «حماقة» الحياة الريفية: «كانت البروليتاريا (طبقة العمال) هي راعية التاريخ، وليست الأغنام». كما يرى كثيرون آخرون من مفكري عصر التنوير أن العمال الزراعيين يشكلون طبقة متخلفة.
لكن اليوم، ربما تبدأ الثورة الأخلاقية التي نحتاج إليها في القرية أو الحقول. ففي حين أصبحت كواهل العديد من المزارعين المعاصرين مُـثـقَـلة بالديون، وساعات العمل الطويلة، والتأثيرات المترتبة على الممارسات غير المستدامة، أفلت آخرون من قيود هذا النظام، وهم يعكفون على رعاية أعراف جديدة- على سبيل المثال، عن طريق الاستعاضة عن الزراعة الأحادية بزراعة متنوعة تدعم الأنظمة البيئية والانتقال من الإنتاج الحيواني المكثف إلى نماذج على مستوى المزرعة. كما يعملون على تنظيم أنفسهم على المستوى المحلي، فيبيعون طعاما أكثر صحية، ويجلبون الـمُـثُـل التعاونية إلى السوق. وقد ساعدت جهودهم في تجديد شباب المناطق المحرومة والمهجورة.
تشمل الرعاية كل ما نقوم به للحفاظ على عالمنا ورعايته- بما في ذلك كل الأنشطة التي تحول الأراضي الريفية والمحيطية- على النحو الذي يسمح لنا بالازدهار عليها، ف من خلال إظهار العناية الشديدة بالطبيعة والآخرين، يجسد أولئك الذين يمارسون الزراعة المستدامة القيم التي يجب أن تستند إليها حركة التنوير الجديدة: التواضع، والعيش المشترك، والتضامن، وينبغي للحكومات الوطنية (والاتحاد الأوروبي) أن تدعمهم، بدلا من تقديم إعانات دعم ضخمة للمزارع الصناعية.
هؤلاء المزارعون- وكل أولئك الذين يبثون الأمل في عالَـم أكثر اهتماما- هم العمال الصامتون والطليعة غير المرئية لحركة التنوير الجديدة، ونحن في احتياج إلى إبداعهم إذا كنا راغبين في النجاة مما يعتبره كثيرون «أزمة متعددة» عالمية - تغير المناخ، والحروب، والعجز عن سداد الدين، وغير ذلك- وأن نتعلم كيف نحيا في رفاهية في القرن الحادي والعشرين.
* كورين بيلوشون أستاذة الفلسفة في جامعة غوستاف إيفل.