فجوة عميقة زمنياً وفكرياً وسياسياً تفصل بين كل من السلطة وأعضاء مجلس الأمة من جهة، وبين إدراك النظام الديموقراطي المؤسسي وبديهياته من جهة أخرى، وهي فجوة كانت طبيعية مع بداية وضع الدستور الحالي ونظامه الديموقراطي البرلماني، بسبب حداثة المفهوم والنظام والممارسة الديموقراطية، لكن بالرغم من مرور أكثر من ستين عاماً على الدستور والتجربة والممارسة الديموقراطية، ما زالت الفجوة حاضرة بكل أبعادها ومؤثراتها ومتوالياتها، والأسوأ أنها باتساع وبشكل عميق.
فالسلطة ما زالت تعيش عقلية دولة المشيخة والتصرف المطلق للحاكم، وهو وضع قد انتهى وولى إلى غير رجعة منذ وضع الدستور عام 1962، فالأمير ذاته في البناء الدستوري سلطة مستمدة لوجودها وشرعيتها وصلاحياتها وأدواتها وإجراءات عملها من الدستور وفي حدوده وإطاره، فالأمير في ظل النظام الدستوري لا يعلو على الدستور بأي حال من الأحوال، لا في الأحوال الاعتيادية ولا الاستثنائية، فجميعها منظم في الدستور ومحدد وبضوابط لضمان أن تكون أعماله في إطار المشروعية الدستورية، ولذلك إن حدث وتولى ممارسة عمل بغير الأدوات المحددة في الدستور أو بالمخالفة لأحكامه الموضوعية، فإن المحكمة الدستورية تملك أن تقرر عدم دستوريته سواء كان مرسوماً أو أمراً أميرياً، وهو ما تم فعلاً بالعديد من الأحكام التي أصدرتها المحكمة.
غير أن هذه الحقائق والمسلمات الدستورية، ما زالت غير مرغوب الالتزام بها وتتم ممارسة أعمال وإجراءات وأدوات معينة خارج إطار الدستور وبالمخالفة الصريحة لأحكامه، مثل استخدام الأمر الأميري لإقالة بعض الوزراء، أو بتجاوزها عملياً بترك الأمور معلقة واقعاً رغم كونها مخالفات دستورية، وهو ما يبرهن أن السلطة تعيش زمنياً في حقبة زمنية ماضية، لم يعد لها وجود، كما تعيش في فجوة إدراك ذهني وفكري بتبني مفاهيم وإطلاق مسميات لا وجود لها دستورياً، ولا تمت إلى نظامنا البرلماني بصلة، مثل رغبة أميرية، توجيهات سامية، لتعبر عن قرارات محددة، فالدستور جعل من الأمير مؤسسة حكم محددة الصلاحيات بأدوات معينة ليس بينها مثل العبارات السابقة، والمناوأة السياسية والواقعية من السلطة لهذه الحقائق الراسخة دستورياً هي الفجوة التي تدور في فلكها السلطة منطلقة من مفهوم خاطئ أو من رأي غير مؤتمن يصور لها أنها سلطة مطلقة ولا قيد ولا حد لها، وهو انفصام بين دولة الدستور والمؤسسات وبين الحنين الجارف إلى حالة المشيخة المطلقة، وهو خيار بكل أسف أرهق الدولة ومؤسساتها ونال من مرجعية أسرة الحكم وعصف بالاستقرارالسياسي الذي رسمه الدستور بأحكامه المتوازنة.
ومن جهة أخرى يعيش النواب ذات الفجوة، فهم يستشهدون بنصوص الدستور حروفاً جوفاء ويمارسون واقعياً الكثير من الممارسات التي تنتهك الدستور وتهدر قيمه وركائزه، فهم يوظفون مفهوم تمثيل الأمة لتبرير مقترحاتهم ومطالباتهم التي تنتهك الدستور في رسم حدود العلاقة بين السلطات، وتلك التي تنحصر في السلطة التنفيذية وتنفرد بها ويتخطون حدودها بممارساتهم العملية، فهم يرون أن تصرفاتهم بلا حدود ولا سقف لها، وينتهكون نصوصاً محجوزة للحكومة مثل الميزانيات، بل ويحاولون التحكم في مسار الحكومة وأولوياتها، والتي ينبغي أن تقدم للمجلس ويضع ملاحظاته عليها، ناهيك عن تجاوزهم لحدود السؤال البرلماني وقيوده وضوابطه منطقياً وعددياً وموضوعياً، وعلى نحو حوّل السؤال أداة استجواب فعلي لا استفسار أو استعلام عن واقعة تفتح حواراً بين السائل والوزير، وهناك تجاوزات في التعسف في استخدام الاستجواب والتلويح به قبل أن يتولى الوزير منصبه رغم أنه يجب أن يبنى على عمل أو قرار يدخل في مجالات عمل الوزير بوزارته، وهكذا تراكمت الممارسات الخاطئة وصارت هي السوابق التي يستند إليها، وتم ركن الدستور جانباً، بسبب فجوة الضحالة السياسية والجموح التعسفي واعتقاد أن العضوية صك مطلق لسلطة لا متناهية ولا محددة، فهي فجوة ثقافة وفكر وفجوة ممارسة وسلوك غير آبهٍ لبديهيات العمل البرلماني ومحدداته.
وللحديث تتمة.