بقايا خيال: قصة جريمة تجارية
حتى نهاية الخمسينيات كانت بقالات صغيرة تنتشر بين البيوت لتمد سكانها بالمواد الغذائية الأولية والمرطبات والمشروبات الباردة، ثم أزيلت البقالات من المناطق السكنية عام 1962، بعد تأسيس أول جمعية تعاونية في الكويت لتوفير السلع الغذائية والاستهلاكية لمناطق السكن النموذجي، إضافة إلى خدمات الصيانة الصحية والكهربائية والصيدليات والأجهزة المنزلية وغيرها من الخدمات بأسعار تنافسية داخل هذه الجمعيات، وقد ساهمت الجمعيات التعاونية في إقامة مشاريع استثمارية صغيرة ومتوسطة لتعود بالفائدة على السكان والمساهمين مادياً ومعنوياً وفرت من خلالها فرص عمل للمواطنين، ولنجاح نظام التعاونيات قفز عدد الجمعيات التعاونية في الكويت إلى نحو 48 جمعية تعاونية منتشرة في كل المناطق السكنية.
ومع مرور السنوات تجاهلت أغلبية الجمعيات الهدف من تأسيسها، وهو توفير سلع بأسعار تنافسية، إذ ارتفعت أسعار بضائع هذه الجمعيات، حتى بعد تأسيس اتحاد الجمعيات التعاونية عام 1979، والذي وضع ضوابط لمعالجة ظاهرة ارتفاع الأسعار لحماية المستهلكين، ورغم ذلك لم يستطع الاتحاد أن يلجم ارتفاع الأسعار أو حتى القضاء على الفساد المالي لأعضاء بعض مجالس إدارات عدد غير قليل من الجمعيات التعاونية، الأمر الذي شجع على بروز أسواق موازية تنافس هذه الجمعيات التعاونية في أسعارها وبضائعها أيضاً، حتى وصل عددها اليوم إلى 8 أسواق تعمل مع فروعها عمل الجمعيات التعاونية.
الغريب أن البقالات التي منعت من مناطق السكن التموذجي، لوجود الجمعيات، عادت إلى المناطق السكنية ولكن بشكل بقالات متنقلة لبيع سلع متوافرة أصلاً في الجمعيات، وكأنها تقول للجمعيات التعاونية إن أسواقكم المركزية الضخمة لم تعد توفر احتياجات المواطنين من السلع ولا بأسعار تنافسية.
وكأننا بهذا الوضع، وبعد أكثر من 60 سنة، عدنا إلى المربع الأول، لاسيما أن فكرة الجمعيات التعاونية الاستهلاكية نشأت نتيجة لتحكم الموردين والتجار وأصحاب البقالات بمواسم مواد غذائية واستهلاكية ضرورية ونوعيتها وأسعارها.
ويبدو أن عودة الأسواق الموازية في المناطق التجارية، وعودة البقالات الجوالة أو المتنقلة إلى المناطق السكنية، هو إعلان عن تمرد على قوانين منع الاحتكار، بل هو إعلان عودة إلى زمن الاحتكار، سواء كان احتكاراً من قبل الموردين والتجار للسلع بأسعار مرتفعة، أو التحكم بمواسم عرض السلع الشحيحة، وفي النهاية هو تحد صارخ لقوانين دولة حكومتها مشلولة وعاجزة عن تقديم الحلول.
وأهم من هذا وذاك هو تحد لإرادة شعب صار مغلوباً على أمره، وكأن مشوارنا نحو تنمية مستدامة لم يختلف عن «بول البعير»، وإلا فما سالفة نقص الأدوية، على سبيل المثال لا الحصر، التي يبرز شحها في السوق الكويتية بين الحين والآخر؟
قبل عقود كان للكويت شركة لصناعة الأدوية تمت تصفيتها من أجل إنشاء شركة أدوية خليجية، واليوم كل دولة خليجية لديها شركات أدوية إلا الكويت، وكان للكويت شركة ملاحة وطنية تمت تصفيتها من أجل إنشاء شركة ملاحة خليجية، فكل دولة خليجية لديها شركات ملاحة إلا الكويت، وقس على ذلك بقية القطاعات الاقتصادية، لتعرف أين نحن بين دول المنطقة.