من صيد الخاطر: «ما قيل في الغدر»
«أَغْدَرُ مِنْ قْيسِ بِنْ عَاصِمٍ»، الغدر وصف لا يطلق على صاحبه إلا لعظم غدر ارتكبه، ولهذا قيل عن قيس بأنه كان من أغدر العرب، فقد ذكر أن جاوره تاجر فربطه، وأخذ متاعه، وشرب خمره، ولما سكر قال:
وَتَاجِرٍ فاجِرٍ جَاءَ الإلهُ بِهِ كأن لِحْيتَهُ أذْنَابُ أجْمالِ
ومن غدره أنه جبى صدقة بني منقر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغه موت النبي، قام بقسمتها على قومه وقال:
لا أبلغا عني قريشاً رسالةً إذَا ما أتَتْهُمْ مهديات الوَدَائِعِ
حَبَوْتُ بِما جَمَّعْته آلَ منقَرٍ وآيستُ منها كلَّ أطْلسَ طَامِعِ
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه وأرضاه، في الغدر: الوفاء توءم الصدق، ولا أعلم جُنَّة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كَيسا، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله؟ قد يرى الحول القلب وجه الحيلة، ودونها مانع من الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا خريجة له في الدين، وقال كرّم الله وجهه: إذا كان الغدر طبعا، فالثقة بكل أحد عجز.
أما عدي بن حاتم الطائي فقال: أتينا الخليفة عمر الفاروق في وفد، فجعل يدعو رجلاً رجلاُ ويسمِّيهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، أسلمتَ إذ كفروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، ووفيتَ إذ غدروا، وعرفتَ إذ أنكروا، فقال عدي: فلا أبالي إذاً.
ولما حلف محمد الأمين للمأمون في بيت الله الحرام، وهما وليّا عهد، طالبه جعفر بن يحيى أن يقول: خذلني الله إن خذلته، فقال ذلك ثلاث مرات، قال الفضل بن الربيع: قال لي الأمين في ذلك الوقت عند خروجه من بيت الله: يا أبا العباس، أجد أن أمري لن يتم، فقلت له، ولمَ ذلك أعز الله الأمير؟ قال: لأني كنت أحلف وأنا أنوي الغدر، وهذا الذي كذلك، إذ لم يتمَّ أمره.
فالغدر ضد الوفاء بالعهد، وهي صفة قديمة موجودة منذ بدء الخليقة في كثير من البشر، وهناك في تاريخ العرب من الغادرين أمثال أبي رغال، وابن العلقمي، أما من يتصف بالغدر والخيانة في زمننا هذا فما أكثرهم، فهم من تسببوا بالمآسي التي يعيشها العراق وسورية ولبنان واليمن، وهم من غدروا بشعوبهم، وهم علاقمة هذا الزمان، وهم من فتحوا أبواب أوطانهم للغزاة كما فعل ابن العلقمي.