مع مرور الأيام التي تلقي على مرآة الذاكرة غباراً يُضعف الرؤية عبر الزمن، قد لا أذكر على وجه الدقة متى التقيت علي البداح أول مرة، لكن الذي أذكره وعلى تمام اليقين منه، أنه كان كويتياً شديد الوطنية، حتى رسخ نفسه علماً من أعلام العمل الوطني المخلص، إذ كنت تراه في كل نشاط وندوة وفعالية، يحضر مبكراً لكنه يفسح الصفوف الأولى لغيره تواضعاً، كان محباً لكل الناس، يقدر الجميع، كباراً وصغاراً، يعبر عن حبه وتقديره لكل مجتهد ومجد ولكل محب لوطنه، يحمل في قلبه نبعاً فياضاً من الطاقة الإيجابية ليروي منه كل من يجالسه.

كان قليل الكلام كثير الاستماع، صادق التعبير عن مواقفه لا يجامل فيها أحداً مهما كان الظرف والمكان، وبسبب ما عاناه وأسرته من غبن، وما أصابه من وجع شخصي قاساه معظم فترات حياته بسبب لغز اختفاء والده في ديسمبر 1961، دون أن تتوصل السلطات إلى جثمانه ولا إلى المتهمين باختفائه، كانت نفسه تواقة دائماً إلى تطبيق القانون على الجميع من دون تمييز.

Ad

كانت العلاقة التي تربطني به وبأسرته تتجاوز نطاق الصداقة والمعرفة والاحترام المتبادل، إلى ما هو أعمق وأبعد، فقد كنت أرى نفسي عضواً في تلك الأسرة، وهكذا عاملني جميع أفرادها.

ومع تواضعه الجم، وتقديره للجميع، لم يكن يرى حرجاً في أن يمارس قناعاته بكل تفاصيلها، وأن يصحح موقف القريبين منه إن زلت بهم الأقدام أو أخطأوا، وأتذكر أني اتصلت به ذات مرة للاطمئنان على صحته، فبادرت بسؤاله: «شلونك بومحمد؟» فكان رده: «أولاً أنا بوإيمان»، فتداركت الموقف واعتذرت له، وكررت سؤالي، فقال: أنا بخير أطمئنك، «لكني أحتاج إلى التوسع بعض الشيء في تصحيح مسماي الأسري»، فقلت له: أسمعك حبيبي أبوإيمان، أكمل. فقال: «يا سعود يابولولو احنا لما نعبر عن مواقفنا من إنصاف المرأة، علينا أن نمارس هذه القناعات ونمارسها بسابق قصد وإصرار، فلا يجوز أن نغفل احترامنا للمرأة تحت وطأة الخضوع للعادات والتقاليد»، قلت له: «هكذا أنت دوماً معلم وقدوة لي».

التقيت بناته الثلاث كثيراً في العمل السياسي الوطني والعربي قبل الاحتلال، وتقاطعت رؤانا كثيراً، واختلفنا اجتهاداً، واتفقنا عملاً ونشاطاً، لكنني في فترة الاحتلال التقيت ابنته أمل في الرياض بعد انتهاء المؤتمر الشعبي، وتحدثنا خلال اللقاء عن رغبتنا في العودة إلى الكويت، واتفقنا على التواصل، ثم يوم دخولي الكويت عائداً من أميركا عبر الأردن وبغداد، فوجئت بإيمان وأماني وبقية الرفاق الذين كانوا في فندق الرشيد يستعدون للعودة بعد انتهاء زيارة أهالي الأسرى لأبنائهم في سجون العراق، هذه المفاجأة تحولت إلى صراخ تعبيراً عن مشاعر الفرح، حتى تحركت حافلة أهالي الأسرى متجهة إلى الكويت.

وسطرت علاقتي بهذه الأسرة الجميلة فصلاً آخر خلال فترة الاحتلال، عندما اعتُقلت بعد خروجي من بيتهم في خيطان، وبعد الخروج من الأسر، وفي صالة الهلال الأحمر الكويتي بالجهراء، إذا بي أجد بين المتطوعات أمل البداح وأسيل العوضي، لتتحول تلك اللحظة إلى استقبال صارخ ولافت للانتباه، لكن هذه المرة في الكويت.

وخلال فترة عملنا في الجمعية الكويتية للدفاع عن ضحايا الحرب، كنا نقضي أغلب ساعات اليوم نشاطاً لا ينقطع، ولا نكاد نعود إلى بيوتنا للراحة القصيرة حتى نعاود نشاطنا. استمر الحال خمسة أشهر تقريباً وعندما قررت العودة إلى مقاعد الدراسة في أميركا، جاءتني إيمان تبلغني بقرار علي وفاطمة (هكذا قالتها): «انت وأم لولو مدعوين غصبن عليكم بس حددوا اليوم اللي يناسبكم لأنك مستحيل تسافر قبل ما يشوفك علي البداح».

لبينا الدعوة، أم لولو وأنا، فرَحين وإذا بالحبيب بوإيمان قد دعا نخبة من الأصدقاء والأحبة أذكر منهم الفقيد فيصل الحجي، والصديق عبدالله الطويل، في جلسة أسرية مفعمة بالمحبة والفرح. كان بوإيمان يكرر على مسامعي ضرورة الاستمرار بالعمل الوطني وبخاصة ما يتعلق بحقوق الإنسان وقضية الأسرى والمفقودين الكويتيين في سجون العراق، مع مراعاة عدم الإخلال بمهمتي الأساسية «التعليم».

وخلال دراستي وعملي ممثلاً للجمعية الكويتية للدفاع عن ضحايا الحرب في واشنطن، اتصل بي ليبلغني أنه وعدداً من الأصدقاء أسسوا لجنة أنصار الديموقراطية وأنه يطلب مني تمثيل اللجنة وتوزيع بياناتها على مؤسسات المجتمع المدني الأميركية، وهو ما رحبت به واضطلعت به طوال وجودي هناك.

وبعد عودتي إلى الكويت، ورغم كثير من المحاولات غير الناجحة لترتيب الصف الوطني الذي أضعفته كثرة الخلافات، كان بوإيمان مشغولاً بالبحث عن الحلول والتطلع نحو المستقبل، فقد نشأ على حب العروبة والعمل في حركة القوميين العرب، لم ينسَ يوماً تلك الأحلام، ولم يشعر بالإحباط، ولم يسمح لأحد أن يشيع أجواء اليأس من حوله.

كم سنفتقدك صديقاً وملهماً وأخاً كبيراً وبوصلة لا تحيد عن جادة الصدق والصواب.

عزاؤنا فيمن خلفت من بعدك إيمان وأماني وأمل ومحمد تجمعهم دوماً رفيقة دربك أم إيمان.

وداعاً فقد تركتنا جسداً، وستبقى فينا ذاكرة عطرة.