الإنسانية وحصد الأرواح في أوكرانيا وفلسطين والتهديد بحرب نووية
عطفاً على مقالي الأحد الماضي على هذه الصفحة تحت عنوان «التضامن الإنساني لإنقاذ ضحايا الزلزال ومأساة سورية»، الذي تناولت فيه الحصار الغربي لسورية، والذي جعلها الأشد معاناة من تركيا بالرغم من الحجم الهائل لضحايا زلزال تركيا ومدن محاها الزلزال.
الإنسانية المبتذلة
الإنسانية هذه الكلمة الساحرة التي يتغنى بها المجتمع الدولي بمؤسساته الإقليمية والعالمية والدولية في الدفاع عن حقوق الإنسان، وهذه الديموقراطية التي نصب الغرب نفسه حارساً أمينا على قيمها في العالم كله، وهو لا يقيم وزنا لأكثر من مدلولها اللفظي.
الإنسانية هذه الكلمة الساحرة التي اهتبل الغرب مأساة الزلازل في تركيا لتحمل طائراته وشاحناته ألوية المحبة والسماحة والفضل والمعروف، لضحايا الكارثة ومع ذلك فإن الغرب لم يستطع مع هذا الكرم والسخاء في هذه المساعدات أن يخرج الإنسانية من دائرة الابتذال المضروبة حولها والمخنوقة بها في أوكرانيا، حيث تحصد أسلحة الناتو وأوروبا وأميركا وروسيا أرواح البشر.
الإنسانية وحماقتها
يقول أبو الطيب المتنيي:
لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ يُسْتَطَبُّ بِه إلا الحماقَةُ أعيَتْ مَن يُداويها
ومثلما تتباهى القوتان العظميان في التاريخ بأسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها، وقد غابت الحكمة عنهما وحلت الحماقة محلها، لتكون القوتان العظميان في العالم ضحية هذه الحماقة، مثلما وقع ضحيتها المتنبي الذي تخلى عن الحكمة في قصيدته التي هجا فيها ضبة الأسدي، فقتله عم ضبه ابن فاتك الأسدي.
حيث تبلغ درجة ابتذال الإنسانية مداها لتقض مضاجع العالم أجمع حول ماهية الحرب العالمية الجديدة منذ إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب له أول تعبئة جزئية منذ الحرب العالمية الثانية، والتي شملت استدعاء 300 ألف جندي من قوات الاحتياط، حيث تطورت القنابل النووية بشكل كبير لتكون ذات مدى أطول وقوة تدميرية أكبر بكثير من القنابل الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي عام 1945.
وتأتي تصريحات الرئيس بوتين بعد فشل العملية العسكرية في أوكرانيا في تحقيق أهدافها، وقد انقضى عام كامل على هذه الحرب التي كبدت روسيا الكثير من الخسائر البشرية والمادية، وفقدان الأسد الجريح كرامته وهيبته وقوته أمام العالم أجمع.
ويقدر المحللون العسكريون أن أكثر من 3 ملايين مواطن في الولايات المتحدة الأميركية سيقتلون في غضون 45 دقيقة فقط من بدء هذه الحرب فضلا عن 90 مليون شخص سيقتلون في العالم خلال الساعات القليلة الأولى من الصراع النووي.
غصن الزيتون الإسرائيلي
ويدخل الجيش الإسرائيلي في زمرة التضامن الإنساني لإنقاذ ضحايا الزلزال في تركيا، بإرسال فريق من جنودها وعمال الإنقاذ والأطباء والمسعفين والمتخصصين في علاج الصدمات، وحيث لا تزال إسرائيل تحت سمع وبصر العالم كله تمارس مسلسلها الدامي الرهيب في هدم بيوت الفلسطينيين وتشريد أهلها وقتل الفلسطينيين وإرهابهم وترويعهم، واعتقال وأسر المئات وإلقائهم في غياهب السجون، وهو المسلسل الذي أصبح أكثر عنفا في ظل حكومة نتنياهو الحالية الأكثر تطرفا من كل الحكومات السابقة، ووزير داخليتها ينذر في تصريحات علنية بمحو قرية فلسطينية بأكملها هي بلدة حوارة بنابلس، والمتحدث باسم الإدارة الأميركية يبرر أفعال إسرائيل بحقها في الدفاع عن نفسها.
وهو ما أثاره الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي في مقال له في صحيفة «هآرتس» حيث يقول في دهشة بالغة إن الجنود الذين جرى إرسالهم إلى تركيا، لإنقاذ أرواح الضحايا، هم الجنود أنفسهم الذين يقومون بهدم المنازل الفلسطينية، ويتساءل في مقاله: كيف يمكن التوفيق بين هذا السلوك الإنساني والسلوك الوحشي والهمجي مع الفلسطينيين؟
معاناة سورية
وبالرغم من هول المعاناة التي يعيشها الشعب السوري منذ اثني عشر عاما والتي زادت أضعافاً مضاعفة بعد الزلزال ومحدودية المساعدات الإنسانية التي تصلهم عبر الحدود الدولية والحدود المصطنعة التي أصبحت واقعا تعيشه سورية، حيث تتوزع أراضيها المحدودة بين الجيش السوري وبين قوات المعارضة وبين الجماعات الإرهابية المتطرفة، ومحدودية المساعدات الإنسانية التي تصل الى سورية، والخوف من عدم وصولها إلى ضحايا الزلزال بسبب هذه الظروف، على العكس من تركيا التي تصلها المساعدات الإنسانية من الاتحاد الأوروبي وأميركا وغيرهما من دول العالم، فالناتو أرسل مئات المساكن سابقة التجهيز بطائراته إلى تركيا لإقامة الأتراك الناجين والنازحين بصفة مؤقته، فضلاً عن المساعدات الإنسانية الأخرى التي أرسلتها أوروبا وأميركا وغيرها من دول العالم، والفنادق التركية على اختلاف درجاتها فتحت أبوابها لهؤلاء وأولئك يقيمون فيها إقامة مؤقتة بلا مقابل أو عوض، فالتضامن الإنساني شمل أصحاب هذه الفنادق وغيرهم من رجال المال والأعمال الأتراك، ومن بين هذه المساعدات باخرة تم بناؤها وتجهيزها منذ أربعة شهور، فيها مساحة تسع لأكثر من ألف شخص، وفيها 400 غرفة امتلأت بضيوفها من الناجين والنازحين، لهذا قلنا إن مأساة سورية هي الأعظم والأشد.
البسمة على الشفاه
إلا أن ما يستوقف المرء أنك وسط رائحة الموت التي تزكم الأنوف والدم والخراب والدمار الذي تعيشه أهالي المناطق التي ضربها الزلزال، ترى البسمة والسعادة على وجوه الناجين أو النازحين، شيوخا وأطفالا نساء ورجالا وثلاث كلمات لا تفارق شفاه الجميع على الشاشات الفضائية: «الحمد لله... منيح».
فالسعادة نسبية تكمن في ذات الإنسان، وتطل فكرة جوهرية في الفرح بالوجود الإنساني، والحفاظ على الحق في الحياة، ومهما كانت الأخطار التي يواجهها الإنسان وتهدد حياته، تظل رهينة الداخل الإنساني، وكما يقول الفيلسوف الأميركي رالف إيمرسون: «لا شيء يجلب لك السعادة إلا أنت».
وخير ما يختم به هذا المقال قول المولى عز وجل: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ». ويقول عز جلاله: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ». كما يقول سبحانه: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.