هناك جزر للذكريات تطفو على بحور من الضباب، يبدو أن كل ذكرى لا رابط بينها وبين الأخرى.

(كارل يونغ).

Ad

حين أمسكت يد علي البغلي وهو على فراش الموت بالمستشفى الأميري، سألته إن كان يتذكر الآن أيام حبه لعواطف وذكرى أيام مدينة ديجون الفرنسية حين قضينا شهراً من العطلة الصيفية في تلك الأعوام البعيدة قبل نصف قرن من الزمان، كان يفترض أن يكون شهراً من دراسة اللغة الفرنسية لطلبة كلية الحقوق وقسم اللغة الإنكليزية في تلك المدينة الجامعية.

لا أتذكر قاعة محاضرة واحدة درسنا فيها، ولم نتعلم من حياتنا الصاخبة هناك غير كلمتَي بونجور وبنسوار، كان شهراً من العشق العنيف، «عنيف» كلمة دائمة تتردد في قاموس ألفاظ علي. ختمت حكايا السهد وليالي الشوق الطويلة بعدة زيجات بين «روميوهات وجوليهات» (يمكن جمع روميو وجوليت) ديجون، بينما تحطّمت علاقات الحب الأخرى على صخور القدر، وكان علي وعواطف من الذين نجحوا في تجربة العشق الجميل، فكان زواجاً موفقاً أهديا للدنيا فيه أربع بنات جميلات، نورة، وزينة، ومنى، وروان. ينادونه بلقب «أبي أحمد» لماذا؟! هو أبو نورة، اسم يشرّف أكثر من كليشيه لقب ذكوري يدهس وجود المرأة، ويخلق اسم ذكر لم تكن له كينونة.

عينا علي منتفختان بخطوط سواد غائرة حفرت نفسها تحت جفنيه، الوجه الوسيم أصبح نحيلاً بنتوءات عظمية بارزة على الوجنتين، نقاط دماء على طرفي فمه خرجت من لسان مجروح عضّه من شدة الألم الرهيب، تحمّله بصبر، ومضات من الذكرى تمضي مسرعة وأنا أتأمّل «علي» بلحظات وداعه، هذا هو الذي ولج علينا متأنقاً مبتسماً بمكر قاعة المحاضرات بكلية الحقوق في العام الدراسي 1968 - 1969، دخل ومعه ثلاثة من الزملاء أثناء محاضرة الشيخ زكريا البري، هم عبدالرضا طبطبائي وفاروق حرمي ومحمود البدر، كان لباسهم أنيقاً، بدلات «آخر موديل» بألوان زاهية خارج ثقافتنا الرسمية المحصورة في البنطلون الرمادي وقمصان «مبكرة»، مثل قماش لعبة الدامة بالكم الطويل، أكثرنا أناقة كان الشيخ ناصر صباح الأحمد وعصام العيسى، الاثنان رحلا وسبقهما وبعدهما محمود البدر ووليد النفيسي ومشاري العصيمي، كلهم غادروا إلى عالم مجهول، سنلحق بهم غداً أو بعد غد، والله العالِم، متى يكون وأين سيكون هذا الغد، هو يقين الكون والوجود.

ما هذا.. من يكون هؤلاء؟ تعليقات شيطانية من وليد النفيسي وضحكة صامتة من مشاري العصيمي... هؤلاء هم الطلبة الجدد يرتدون ملابس علب حلوى الماكنتوش المفرحة، كانوا مجموعة طلبة ذهبوا في تجربة لم تتكرر لدراسة القانون بفرنسا بعد تخرّجهم في الثانوية العامة، وسبقهم الدكتور عثمان عبدالملك في دراسته العليا، ولم يكملوا مشوارهم هناك، فأكلموا الدراسة بجامعة الكويت، تخرّجنا علي وأنا عام 1972 بتفوق، تفوّق دراسي لا يقدّم ولا يؤخّر.

مضت السنون، رحلت للولايات المتحدة للدراسة كمعيد بعثة بجامعة الكويت، بعد أن قضيت سنة واحدة كأول محام خريج من كلية الحقوق بجامعة الكويت، وصورت مع عبدالوهاب المفلح صوراً نُشرت في مجلة العربي، أكبر المحامين سنًّا الراحل عبدالوهاب المفلح 83 عاماً، وأنا أصغرهم عمراً (22 سنة).

علي ومشاري العصيمي وفيصل المرشد ووليد النفيسي وسعود الغملاس عملوا بالنيابة العامة، إلا أن علي ومشاري تحوّلا - بعد سنة من العمل بالنيابة - للعمل في القسم القانوني بشركة البترول الوطنية، ويذهبان للدراسة في عاصمة الضباب، ثم يعودان بعدها، لينشغلا بالمحاماة والسياسة، ويشغل علي منصب وزير النفط عام 1992 بعد نجاحه في الانتخابات التشريعية هو ومشاري، في العام ذاته، وبعد خروج علي من الوزارة اجتهد في عمله كنائب، بهر به الزميل عبداللطيف الدعيج، فكتب عنه مقالاً بعنوان «النائب القدوة»، فهو يحضّر نفسه ويدرس جيداً موضوعات الجلسة، بينما كان غيره يروحون ويأتون للجلسة على البركة، حالهم من حال إخوانهم الوزراء... ومنذ ذلك اليوم صرت أناديه «جناب القدوة»...

رحل علي قبل أيام، كما قلت، وقد عانى الكثير من مرضه، تحمّل الألم بصبر، لم يفقد وعيه في أصعب أيام مرض الموت، ولم أفهم ولن أفهم البروتوكولات الطبية هنا التي منعت عنه مسكّن المورفين، بعذر أنه قد يؤدي إلى الوفاة.. ماذا كانوا يتوقعون وعلي كان بتلك الحالة المزرية من الألم المبرح؟ هل سيقف ويركض في سباق الماراثون؟!

مات علي... هل تحدّث لنفسه، يا تُرى، وهو على سرير موته، وقال لنا مثلما كتب الشاعر رامبو لشقيقته قبل وفاته «سأكون تحت التراب بينما أنت تحيين في الهواء الطلق»؟