ربما إنسانيتنا ربما؟
جلسوا كلهم بعيدين عن هذا المكان، الشرفة قريبة من الوطن لكنها ليست هو، تجمعوا حول مائدة عامرة وقبلها كثير من المقبلات والحديث الحميمي والمشمس، توشك أن تعدهم وهم جالسون مستمتعون بحضورها وغيابها أيضاً.
كيف تكتب اللغة سألها؟ لم تفهم هي سؤاله، وربما لم تكن مهتمة به لأنها الآن واليوم في عالم آخر، استمرت الشمس تحرقهم مرة وتنيرهم مرات، وهي تسرع في عودتها إلى منزلها، وهم أو هن نساء ورجال وآخرون من قال إن الكون مشكل من رجال ونساء فقط؟ فهناك أطفال وهناك ما بين بين! أوشكت الشمس أن تعلن غيابها منذرة بالقادم، وهو في هذه البلدة ظلام حالك، فلا ضوء بعد ضوء الشمس عند رحيلها إلى منازلها!
كانوا شلة من هذا وذاك، أي بلد وبلد، أو عرق وعرق، أو حتى طائفة وأخرى، ما يهم أنهم كلهم أو كلهن يعرفن بعضهن منذ سنين طويلة، فلم يتعرفوا على بعض بتعريف كهذا «مرحبا أنا لبنانية مارونية، أو أنا لبنانية شيعية من جنوب لبنان، أو حتى أنا من الخليج الذي لا تعرفون، أو من تونس التي لم تعد خضراء كما كان يقال لكم، ولا حتى من المغرب العربية، فهناك أمازيغ في المغرب هل تعلمون؟».
جلسوا يستمتعون بأطباق من الأكل متنوعة كما هم وكثير من الحب وبعض الشراب الذي يكون هنا وهناك!
كانت أصوات ضحكاتهم تصل إلى آخر ذاك الشارع المتنوع الذي لا يشبههم، وهم يكثرون من النكات والحديث حتى جاء صوت الجامع الأول، فسكتوا مصغين، ففي حيهم أكثر من جامع لأكثر من طائفة، التزموا جميعاً بأديانهم وطوائفهم بإعلان الصلاة تلك، وبعد لحظات عندما سكت صوت الأذان أو الدعوة للصلاة عادوا للأحاديث لبضع لحظات قبل أن يعاد الأذان الآخر للصلاة نفسها! سكتوا هم وهن وأصغوا احتراماً وتقديراً.
وبعد أن سكتت أصوات المآذن على اختلاف أطيافها وطوائفها جاءت صلوات أخرى، ففي هذا البلد توجد أديان ومذاهب مختلفة... بقوا هم شلة من النساء والرجال في منتصف العمر أو بعضهم في آخره أو أوله محترمين لكل الأديان والطوائف والطقوس، ووقف أحدهم ليردد متى يحترمون هم أو الآخرون ما نؤمن نحن به بعيداً عن الدين؟ أليس هناك الكثير مما يؤلم وهو لا يمتّ للدين بصلة؟ ألسنا جميعاً بشر ننتمي إلى هذا الكون وفيه ومنه أكثر من الدين والطائفة اللذين قتلا منا الكثير؟
لم تتوقف الأصوات عبر مكبرات الصوت التي يملكونها هم بكل قدراتهم وسطوتهم، وبقينا نحن نتساءل: أليس الدين والمذهب جزءاً بسيطاً من تكوين الفرد وليسا كله؟ أم أنهما أصبحا كل ما يمثل الإنسان أينما كان؟ فالإنسان ليس طائفة أو ديناً فقط، ولا هو عائلة أو قبيلة، ولا حتى ما يراه الآخرون، بل هو أبعد من ذلك بكثير، لكننا لا نراه إلا بتلك المقاييس الضيقة، فإما هو من عائلتي أو قبيلتي أو طائفتي أو بلدي وإلا فهو ليس مني أبداً.
ترحل السنون ليعرف هو ونعرف نحن وهم أن العالم أوسع من كل هذا المحيط الضيق الذي خلقوه أو خلقناه نحن، وأن الكون أوسع من فكرة قبل أن يكون أوسع من طائفة أو دين، وهو أيضا وبالتأكيد أوسع من بلد وتضاريس جغرافية، وبعض تاريخ يروى ربما يكون صحيحاً، وربما وكثيراً ما يمكن أن يكون مجرد رواية لشخص واحد، وهذا لا يعني أنها الرواية الواقعية.
تعود للجمع في تلك الشرفة المطلة على البحر الواسع والشمس توشك على توديع يومها الطويل بتثاؤب وبطء، وأنت وهم ما زلتم تضحكون بعض الشيء، وتعرفون أنكم أقرب مما كان يقال لكم من أحاديث عن قرابة الدم والعرق والعائلة... شيء ما أعمق من كل ذلك هو ربما مجرد إنسانيتنا التي بقيت بعد أن تلاشى كل شيء جميل آخر... ربما؟
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.