مع تسبب الأزمة التي عصفت بمصرف «سيليكون فالي بنك» (svb) الذي أغلقته السلطات الأميركية، الجمعة الماضي، في موجة من الذعر عبر القطاع المصرفي، ومنه إلى أسواق المال، كان من المنطقي أن يعيد إعلان إفلاس البنك، مخاوف تكرار سيناريو الأزمة المالية التي تعرض لها العالم في 2008، حينما أعلن مصرف «ليمان براذرز» إفلاسه.
انطلقت تلك المخاوف من كون «سيليكون فالي» الذي يرتكز نشاطه في تمويل الشركات الناشئة التكنولوجية، من المصارف المتينة التي يمكنها مواجهة المخاطر المالية مهما كانت الظروف العالمية المحيطة، إلا أنه انهار خلال يومين فقط، ولم يعد قادرا على تلبية عمليات السحب الهائلة التي قام بها عملاؤه لأموالهم، كما لم تنجح محاولاته لزيادة رأس المال بسرعة.
فالبنك المقرب من أوساط التكنولوجيا وجد نفسه فجأة في حالة عسر، بعد ما تضاعفت ودائعه أكثر من 4 مرات خلال 4 سنوات (من 44 مليار دولار في 2017 إلى 189 مليارا نهاية 2021)، في حين نمت قروضه التي يقدمها للشركات الناشئة من 23 مليار دولار إلى 66 مليارا، ومع تغير العالم وارتفاع أسعار الفائدة مع ترسخ التضخم وانخفاض أسعار السندات، أصبح البنك مكشوفا بشكل فريد، وخفض العملاء ودائعهم من 189 مليار دولار نهاية عام 2021 إلى 173 مليارا في نهاية عام 2022.
وكما لا يخلو الأمر من عِبر، فإنه، أيضاً، لا يخلو من المفارقات، التي تؤكد أنه لا أحد يعتبر، فالمصرف «المتين» أُعلن إفلاسه ووضعه تحت سيطرة مؤسسة التأمين الفدرالية، بعد 4 أيام فقط من افتخاره، عبر موقعه وصفحته على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، بحصوله على تصنيف سنوي لأفضل البنوك الأميركية للعام الخامس على التوالي، كما تمت تسميته أيضاً في قائمة Financial All-Stars من شركة النشر الأميركية فوربس عبر منشورتها مجلة فوربس التي تعد أكثر القوائم شهرة في العالم، وتعنى في الدرجة الأولى بإحصاء الثروات ومراقبة نمو المؤسسات والشركات المالية حول العالم، وذلك قبل إغلاق الصفحة أمس الأول، لتصبح «فوربس» شاهدة على رحلة البنك من The best إلى Something went wrong.
مهلاً، ليست هذه هي المفارقة، فالمفارقة الحقيقية هنا، هي أن سقوط مصرف «ليمان براذرز» في 2008 جاء بعد يومين فقط على منحه تصنيف AAA أي «الأكثر أماناً»، وبعد عام واحد على استقالة المدير المالي له جوزيف جنتيل، وتعيينه مديرا إداريا أول في بنك سيليكون فالي.
وكما وضعت تلك المفارقة، حينها، وكالات التصنيف الائتماني تحت مقصلة الانتقاد والتشكيك، فقوبلت بسيل من الانتقادات في السنوات التي تلت ذلك الانهيار، لعل أبرزها، تقرير لجنة الكونغرس الأميركي (F.C.I.C) لتقصي حقائق الأزمة المالية. الذي أفاد أن أحد الأسباب والعنصر الأساسي للتدمير المالي كان وكالات التصنيف الائتماني العالمية الأميركية الثلاث «ستاندر أند بورز، وفيتش، وموديز» إذ لولاها لما حدثت الأزمة على حد وصف التقرير. كان لا بد أن تضع، المفارقة، وكالات «البروباغندا» الإعلامية تحت المجهر.
تلك الوكالات مثل فوربس وغلوبال فاينانس وذي بانكر وبلومبرغ وغيرها من المؤسسات التي تحولت، خلال السنوات الأخيرة، من مجرد منشورات إعلامية أو قوائم إحصائية تعني بإحصاء الثروات ومراقبة نمو المؤسسات والشركات المالية حول العالم، إلى وكالات تصنيف موازية تمنح الأفضلية للشركات والمؤسسات وحتى للأشخاص، حسب اعتبارات، تثير التساؤلات بشأن مقاييسها، ما آل إليه مصير بنك سيليكون فالي وغيره من المؤسسات، التي لا تتناسب أوضاعها مع الجوائز والألقاب الممنوحة لها من تلك المنشورات، كالأفضل والأسرع والأقوى والأكثر أماناً. أضف إلى ذلك، أن مهمة إحصاء الثروات والتي تقوم بها هذه المنشورات، ليست دقيقة بما يكفي، فهي تغفل عن إحصاء الديون، على سبيل المثال، عند حصر ثروات الأشخاص والشركات، بالإضافة إلى اصطدامها بإشكالية حصر بعض أنواع الأصول أو تقييماتها في الفترات المحددة كالقيم السوقية للأسهم والأوراق المالية أو حتى حصر بعض الأصول السائلة كالنقد، ما يضع موضوعيتها على المحك.
هذه الإشكالية عزز فرضيتها، على سبيل المثال، نزاع قضائي بدأه رئيس شركة المملكة القابضة الملياردير السعودي الوليد بن طلال، في 2013، بعد ما قرر إنهاء علاقته مع قائمة فوربس للمليارديرات، وطلب إزالة اسمه من القائمة، وعزا ذلك إلى «تحيز متعمد في عملية التقييم» الخاصة بالمجلة ضد مستثمري الشرق الأوسط.
وإعمالاً لذلك، تطرح الكثير من التساؤلات نفسها: ألا يتوجب على وكالات البروباغندا أن تكون قد توقفت عن العمل الآن بعد أن أبلغتنا لسنوات وسنوات أن ذلك البنك هو الأفضل أو الأكثر أماناً؟ أو أن هذه الشركة هي الأسرع نمواً؟ أو أن هذا هو الأغنى أو ذاك هو الأكثر تأثيراً؟ كيف لهذه الوكالات التي ارتكبت أخطاء منهجية في الماضي أن تتمتع بأي مصداقية كانت في أي تقييم عن الأفضلية تقدمه الآن؟
إنما الأكيد أن وكالات البروباغندا الإعلامية تبقى محلاً للتساؤل، والمعايير التي تنتهجها في منحها للألقاب تحتاج إلى استيضاح وتفنيد، وكما لعبت وكالات التصنيف دوراً بارزاً في حدوث الانهيار المالي والتوابع الاقتصادية التي أعقبت الأزمة المالية عام 2008، ليس مستبعداً أن يكون لهذه الوكالات دور بارز في حدوث الانهيار المالي المنتظر، حينها، فإن بقاءها مقيّماً معتبراً ومانحاً لصكوك الأفضلية أمر يحتاج إلى تفسير.