دعاء الفارابي
بعد كتاب تهافُت الفلاسفة، الذي ألّفهُ أبوحامد الغزالي، أخذ البعض يتهم الفلاسفة بالزندقة، وقد كان للفارابي النصيب الأوفر من تلك الاتهامات، بينما نجد أن أبا نصر محمد بن نصر الفارابي الذي يصفهُ العالَم بـ (المعلّم الثاني)، بعد المعلم الأول (أرسطو)، يخاطب ربّه بكل خشوع:
«اللهُم لا إله إلا أنت، علّة الأشياء، ونور الأرض والسماء، امنحني فيضاً من العقل الفعال يا ذا الجلال والأفضال.
ربّ هذّب نفسي بأنوار الحكمة، وأوزعني شكر ما أوليتني من نعمة، أرني الحق حقاً وألهمني اتّباعه، والباطل باطلاً واحرمني اعتقاده واستماعه، ربّ هذّب نفسي من طينة الهيولى، إنك أنت العلّة الأولى.
اللهم ربّ الأشخاص العلوية والأجرام الفلكية، والأرواح السماوية، غلبت على عبدك الشهوة البشرية، وحب الشهوات والدنيا الدنيّة، فاجعل عصمتك مجني من التخليط، وتقواك حصني من التفريط، إنك بكل شيء محيط.
اللهم يا واجب الوجود، ويا علّة العلل، يا سرمديّاً لم يزل أن تعصمني من الزلل، وإن من الأمل ما ترضاه لي من عمل، اللهم امنحني ما اجتمع من المناقب، وارزقني في أموري حُسن العواقب، ونجّح مقاصدي والمطالب، يا إله المشارق والمغارب... اللهم ألبسني حلل البهاء، وكرامات الأنبياء، وعلوم الحكماء، وخشوع الأتقياء، اللهم أنقذني من عالَم الشقاء والفناء، واجعلني من أصحاب الوفاء وسكّان السماء مع الصديقين والشهداء».
***
فبالله عليكم:
هل يصدر مثل هذا الدعاء من زنديق؟!
ومع أن كتاب ابن رشد (تهافت التهافت) قد أوضح ما للفلسفة والفلاسفة من دورٍ في تصحيح ما أورده الغزالي، إلّا أن هناك مَن يصنّف المعلم الثاني (الفارابي) ضمن الخارجين عن العقيدة، رغم ما قرأتموه في الدعاء القصير الذي اخترته لمقال اليوم، ولكن لأنّه لا يصح إلا الصحيح، ها هي الفلسفة تحتلّ المكانة الرفيعة بين المعارف الإنسانية، وصار اسم الفارابي رمزاً إنسانياً لما قدّمه للبشرية من معطياتٍ عملت وتعمل من أجل الارتقاء بالإنسان.