بقدر ما شكّل انهيار بنك سيليكون فالي (svb) في الولايات المتحدة - مع بنكين آخرين أصغر حجماً هما سيغنيشر بنك وسيلفرجيت كابيتال بنك، المرتبطان أكثر بتمويل العملات المشفرة، ذعراً في الأوساط المالية والمصرفية في العالم من أن يكون هذا الانهيار شرارة أولى لأزمة عالمية مالية جديدة على غرار انهيار بنك ليمان براذرز عام 2008 بقدر ما قدمت حادثة الانهيار الأخير، على مداها القصير، دروساً في كيفية العمل على تطويق الأزمة قبل استفحالها أو تمددها إلى كيانات مصرفية أو مالية أو تكنولوجية أخرى.
إذ لم تمنع عطلة نهاية الأسبوع الماضي، بعد انهيار بنك سيليكون فالي يوم الجمعة الماضي، مسارعة الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة كالمجلس الاحتياطي الفدرالي وهيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية والمؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع ووزارة الخزانة، فضلاً عن البيت الأبيض في أكثر دول العالم رأسمالية، باتخاذ مجموعة من الإجراءات الضرورية لتطويق الآثار المباشرة للانهيار ولو على المدى القصير وخفض درجة الذعر بين المستثمرين والأسواق، فضلاً عن التأكيد على قيم أخلاقية كأساس للتعامل مع أي حالات إخفاق أو تعثر أو إفلاس يمكن أن تحدث في المستقبل.
قيم اخلاقية
وتمثلت القيم الأخلاقية في التعامل مع مسألة إفلاس المصارف الأميركية في إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن السريع أن المتسببين في الأزمة لن يفلتوا من العقاب في حين شددت وزارة الخزانة الأميركية خلال العطلة على أن الحكومة الفدرالية ملتزمة بحماية أموال المودعين وليس المستثمرين أو الدائنين، وأن المودعين سيصلون إلى ودائعهم في البنك المفلس في بداية الأسبوع - الاثنين - وأن الأموال لن تأتي من دافعي الضرائب بل من الرسوم التي تدفعها البنوك لتأمين الودائع.
دور الدولة
أما من الناحية التنظيمية، فقد تجلى دور الدولة الرقابي والإشرافي في أكبر دول العالم رأسمالية لضبط انحرافات السوق، إذ سارعت المؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع بوضع بنك سيليكون فالي المفلس تحت وصايتها وعزل إدارته وتعيين رئيس تنفيذي جديد، في حين أطلق البنك الاحتياطي الفدرالي برنامجاً للتمويل المصرفي لأجل عام واحد لمختلف مؤسسات الإيداع مقومة بسندات الخزانة وأوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري، إلى جانب تسعير الضمانات المقدمة بالقيمة الاسمية وليس بحسب أسعار السوق، مما يسمح للبنوك باقتراض الأموال دون الاضطرار إلى بيع الأصول بخسارة، فضلاً عن طرح البنك الذي تصل أصوله إلى 209 مليارات دولار، ومتخصص في تمويل الشركات الناشئة، للاستحواذ أو الدمج، كما فتحت وزارة العدل مع هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية تحقيقاً مشتركاً لمراجعة أوجه الإخفاق في بنك سيليكون فالي تنشر نتائجه علنا بحلول الأول من مايو المقبل.
أثر ترامب
وربما يكون أكثر الأسئلة تجاه انهيار بنك سيليكون فالي، إلى جانب البنكين الآخرين الأصغر حجماً، مع نمو المخاوف في قطاعات البنوك الأميركية المتوسطة الحجم، هو: ما أسباب انهيار البنك رغم كل الاحتياطات والإجراءات الوقائية التي اتخذتها الولايات المتحدة - ومعظم دول العالم - لخفض درجة المخاطر في النظام المصرفي إلى أدنى مستوياتها؟
في الحقيقة، إن جانباً مهماً من أزمة بنك سيليكون فالي مرتبطة بتخفيف قوانين رقابية أميركية سُنّت بعد أزمة 2008 المالية، وأهمها قانون «دود - فرانك» الصادر عام 2010 المرتبط باعتبارات حماية العملاء والمستهلكين من الاستغلال والعمليات المرتفعة المخاطر، فضلاً عن الرقابة على اعتبارات السيولة وحجم رأس المال ومدى تحمل سيناريوهات مختلفة من اختبارات الضغط في المصارف التي تبلغ أصولها 50 مليار دولار على الأقل، فكان أن شهد العام رفعاً لقيمة الأصول التي تخضع للرقابة بموجب قانون «دود - فرانك» إلى 250 مليار دولار بدعم من الرئيس السابق دونالد ترامب وهو إجراء قلل من أعداد البنوك الخاضعة للقانون لا سيما الصغيرة والمتوسطة الحجم.
كيف حدث الإفلاس؟
خلال جائحة كورونا، ضخّ الفدرالي الأميركي سيولة ضخمة في الأسواق، كان بنك سيليكون فالي أحد المستفيدين منها بالتزامن مع انتعاش قطاع الشركات الناشئة مما رفع محفظة ودائع البنك من 60 مليار في 2019 إلى ما يقارب 209 مليارات دولار في نهاية 2022، ومع تضخم المحفظة رفع البنك استثماراته بسندات طويلة الأجل بقيمة 90 مليار دولار وعائد متوسط بـ 1.7%، وظل هذا الأمر مقبولاً للبنك خلال الفترة الماضية، حتى اتجه الفدرالي إلى تسريع وتيرة رفع الفائدة لتدهور قيمة السندات الطويلة الأجل، فضلاً عن أثر التضخم السلبي على أنشطة وسيولة الشركات الناشئة. وفي مطلع الشهر الجاري باع البنك محفظة سندات ضخمة لديه بخسارة بنحو ملياري دولار لينتشر الفزع بين المودعين الذين سارعوا لطلب سحب ودائع تشكل نحو نصف الودائع الموجودة في البنك، لذلك انهار خلال أقل من 48 ساعة.
قياس محلي
وربما يكون هناك الكثير مما يجب أن يقال عن إفلاس بنك سيليكون فالي خلال الأيام أو الأسابيع القادمة، خصوصاً أنه لا يمكن الجزم حتى الآن إن كانت الإجراءات الفدرالية نجحت في تطويق الأزمة وعدم تسربها إلى بنوك أو قطاعات أخرى أم لا، وهل سيؤدي إفلاسه إلى تشدد أكثر لدى البنوك العالمية تجاه السياسات المصرفية كمعايير السيولة ورأس المال والتمويل واختبارات الضغط أم لا، لكن في الأمر جانب يمكن رصده كقياس محلي رغم الاختلاف الكبير في حجمي الاقتصادين الكويتي والأميركي، فالقياس لا يرتبط بحادثة إفلاس بنك سيليكون فالي نفسها، بل في قيمها الأخلاقية من جهة التعهد بعدم إفلات المتسببين من العقاب، وهو أمر لم تعرفه الكويت لا في أزمة سوق المناخ ولا في أزمة 2008، ولا حتى في قضايا النصب العقاري أو أي قضايا نصب أخرى، وكذلك في جانب وجود أموال من خارج أموال دافعي الضرائب - وفي الكويت ربما يعادلها المال العام - لإنقاذ أي كيان مصرفي، بل من خلال استخدام أموال متأتية من الرسوم التي تدفعها البنوك لتأمين الودائع.
وكذلك لا يمكن إغفال الدروس التنظيمية خصوصاً المذكورة آنفاً بشأن محاولة تطويق الأزمة ولو على المدى القصير ومنع استفحالها أو تمددها حتى خلال عطلة نهاية الأسبوع كل هذا بسياسات وقرارات واضحة يتم إعلانها تباعاً لتكون الصورة لدى المودعين والدائنين والمستثمرين واضحة بلا غموض.
أما في الكويت فلا يقين - حتى في ظل عدم وجود أزمات - لدى معظم المستثمرين مثلاً تجاه طبيعة السياسات النقدية، ولا مبادرة لإصلاح شأن أي قطاع حتى ولو كان هو جوهر الخطاب الاقتصادي الإنشائي الحكومي كقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة الذي عاني من آثار جائحة كورونا، دون أن تصنف الدولة أي مشاريع مفيدة للاقتصاد تستحق الدعم من عدمه أو تقدم برنامجاً واضحاً للتحفيز، بل إننا في الكويت لو وقعت أي أزمة مهما كانت محدودة أو علقت أزمات مستمرة فلن نعرف كيف نواجهها لعدم وجود حكومة بالأصل.
إن الدروس نتاج لأي أزمة، والعبرة دائماً فيمن يفهمها ويستوعب معانيها... وهذا غالباً ما لا يحدث في الكويت.