التميمي: تطبيق «العقوبة التفاوضية» على الجرائم متوسطة الجسامة
• «إعادة النظر في عقوبات الحبس واستبدالها بالغرامات والمصادرة والحظر وإصلاح الأضرار»
يشكِّل القضاء المرهق خطورة جسيمة على نظام التقاضي من ناحية، وعلى جودة إنتاجية القاضي الجزائي من ناحية أخرى، حيث يعتبر التضخم المهول الحاصل في عدد القضايا المُحالة إلى القضاء الجزائي عامل إرهاق عصيب على هذا القضاء، فقد جاء التقرير السنوي الصادر من النيابة العامة الكويتية لعام 2022 مشيراً إلى عدد القضايا المنجزة، والتي بلغت قرابة سبع وثلاثين ألف قضية أحيل منها إلى القضاء ما نسبته 60 في المئة من ذلك الرقم، مما يعني دخول قرابة اثنين وعشرين ألف قضية في عام واحد في حوزة القضاء الجزائي.
ولما كان القضاء الجزائي قضاء اقتناع، فهو يتطلب، بحكم اللزوم، قدراً من الصفاء الذهني والفكري لدى القاضي، لمباشرة جميع إجراءات المحاكمة الجزائية، وأخصها المرافعة القضائية وسماع الشهود واستجواب المتهم، وهو ما يصعب تصوره، في ظل هذا الزخم المهول من كمية القضايا الجزائية المُحالة إليه. وهنا يتوجب التساؤل عن إمكانية قبول إرهاق القضاء الجزائي بهذا الكم الهائل من القضايا، التي تتنوع جسامتها بين القضايا ذات الجسامة البسيطة والمتوسطة إلى الجسيمة.
ولما كانت العدالة أم الغايات في أنظمة التقاضي، فإن ذلك يتطلب، بحكم اللزوم، العمل على تطوير آليات إنهاء الخصومة القضائية، وتجاوز أعتاب الأنماط التقليدية في إدارة الدعوى الجزائية، التي تتبلور في مبدأ «لا عقوبة دون دعوى جزائية»، والتي كانت ومازالت حبيسة الطرق النمطية المبتدئة في جهات الملاحقة الجزائية، مروراً بجهات التحقيق والاتهام، وصولاً في نهاية المطاف إلى طرق أبواب المحكمة للحصول على حُكم جزائي فاصل في الخصومة الجزائية.
وعلى ذلك، فإنه لابد من إعادة النظر بصورة جذرية في أدوات وطرق إدارة الخصومة الجزائية، والتي تتطلب رحابة فكر وصدر من الأطراف الفاعلة في الدعوى العمومية (القضاء – النيابة العامة – الإدارة العامة للتحقيقات)، كما تتطلب فكراً قانونياً متطوراً من قِبل المشرِّع الكويتي يضع تجارب القوانين المقارنة موضع البحث والاستفادة، كما هو الحال مع المشرِّع الفرنسي، الذي في سبيل انتشال قضائه الجزائي من حالة الإرهاق المضنية وتكدس القضايا، حرر قواعد إدارة الدعوى الجزائية من قيودها التقليدية. ولرسم خريطة طريق نحو غربلة مفهوم إدارة الدعوى الجزائية وتطويره، فإنه يمكن الاستفادة من الحلول التالية:
أولاً: فتح خيارات أكثر للمحقق
بشأن التصرف في التحقيق
يقيد قانون الإجراءات الجزائية في المادة 102 سُلطات المحقق المختص (وكيل النيابة – محقق الإدارة العامة للتحقيقات) بشأن التصرف في التحقيق، فالمحقق مخيَّر بين أمرين: إما الإحالة إلى المحكمة في حال كفاية الأدلة وتحديد الفاعل، أو حفظ التحقيق مؤقتاً أو نهائياً. كما خوَّل قانون الإجراءات الجزائية وزير الداخلية (واقعاً النائب العام بشأن الجرائم التي تدخل في اختصاص النيابة العامة) حفظ التحقيق لتفاهة الجريمة.
والحقيقة أن حصر خيارات المحقق بين الإحالة أو الحفظ، هي فكرة بالية، لم تعد القوانين المقارنة تتقيد بها، بل أصبحت -هذه الفكرةـ أحد أسباب تكدس القضايا أمام المحاكم، نتيجة كثرة حالات الإحالة إلى القضاء متى توافرت الأدلة الكافية وعُلم الفاعل.
فالمحقق يجد نفسه في كثير من الأحيان أمام حالة من الإجبار للإحالة إلى المحكمة، رغم تفاهة الجريمة أو عدم جسامتها، أو حفظها، رغم أن قرار الحفظ لن يؤدي إلى إصلاح المتهم أو زجره بالقدر البسيط الذي لا يصل إلى درجة المحاكمة.
لذلك يتوجب إيجاد حل وسط بين هذين الخيارين، وهو استحداث خيار أوسط، وهو مكنة اللجوء إلى الوسائل البديلة عن الدعوى الجزائية – التي سنتطرق لها في هذا المقال- والتي يستطيع المحقق المختص اللجوء إليها من تلقاء نفسه بعد استيفاء كل إجراءات التحقيق دون أن يكون هناك إلزام من أطراف الخصومة الجزائية (المتهم – المجني عليه) على قراره. كما يمكن للمشرِّع حصر سُلطات المحقق في اللجوء إلى هذا الخيار في طائفة معينة من الجرائم ذات الجسامة البسيطة إلى المتوسطة، كما في جرائم الجنح، كجرائم السب والقذف والسرقات البسيطة والأذى على نحو محسوس أو التعدي الخفيف أو بعض جرائم الخطأ، كما في جرائم الإيذاء غير العمدي.
ولجوء المحقق إلى خيار الوسائل البديلة عن الدعوى الجزائية لا يعتبر بعداد الحكم الجزائي، ولا تُعد الإجراءات البديلة عن الدعوى الجزائية في حكم العقوبة، ولا تسجل سابقة في الصحيفة الجزائية، ولا تتضمن حبساً للحرية، بل تعتبر تلك الوسائل، في حال إقرارها على المتهم، صورة من صور حفظ التحقيق المؤقت المشروط بسلامة تطبيق المتهم للطلبات المفروضة عليه بناءً على أحد الخيارات التي يتبناها المحقق كبديل عن الدعوى الجزائية، فإن هو خالفها يباشر المحقق إجراءات إحالة الدعوى إلى المحاكمة التقليدية.
ويحقق هذا الخيار عدة مزايا، سواء لمرفق القضاء أو للمتهم، حيث إن من شأن اللجوء للوسائل البديلة عن الدعوى الجزائية الحد من التدفق الهائل لكمية القضايا المحالة إلى القضاء الجزائي، وإفساح المجال لهذا الأخير للتفرغ للقضايا ذات الجسامة العالية التي تتطلب زجراً من نوع آخر يختص هو وحده بتطبيقها دون غيره، وهي العقوبات بمعناها الدقيق، كالإعدام والحبس والغرامة. كما تسعف الوسائل البديلة في إنهاء الخصومة الجزائية في مراحلها الأولية، وهي عند جهة التحقيق والاتهام (النيابة العامة – الإدارة العامة للتحقيقات)، دون أن يضطر المحقق المختص لاتخاذ قرار حفظ التحقيق أو الإحالة دون سواهما.
ثانياً: استحداث الوسائل البديلة
عن الدعوى الجزائية
تشكِّل الوسائل البديلة عن الدعوى الجزائية خياراً للمحقق المختص قبل اتخاذه لقرار التصرف في التحقيق، فإن رأى من خلال ظروف الجريمة التي ارتكبت والعناصر المرتبطة بالمتهم، كسنه وجنسه وظروفه المعيشية والثقافية والعلمية، بأن من شأن تلك الوسائل أن تشكّل مدخلاً إصلاحياً لإعادة تأهيله، فإنه يلجأ إلى هذا الخيار، أو أن يسلك طريق الإحالة إلى المحكمة.
وتمتاز تلك الوسائل البديلة بتجردها من صفة الإلزام على المتهم، أي أنه غير ملزم بتنفيذها، إلا أن ذلك من شأنه أن يقود المحقق لمباشرة إجراءات الإحالة إلى المحكمة، وهو الخيار الذي لا يفضله المتهم في غالب الأحيان.
ويمكن إيراد بعض صور الوسائل البديلة عن الدعوى الجزائية في الآتي:
1 - الطلب من المتهم الخضوع لدورات إعادة التأهيل الطبي أو النفسي أو الاجتماعي أو الثقافي، بناءً على طبيعة الجريمة المرتكبة، ويلجأ إلى هكذا وسائل عادة في جرائم التعاطي للمرة الأولى أو جرائم الوحدة الوطنية أو جرائم الكراهية أو جرائم التهديد أو الابتزاز أو جرائم المساس بالاعتبار، كالسب والقذف أو المساس بالأديان.
2 - الطلب من المتهم أداء خدمة اجتماعية، كالانتساب -لمدة يحددها المحقق على ألا تجاوز نطاقاً معيناً- لإحدى المؤسسات أو الجمعيات الاجتماعية أو المهنية أو الخدمية أو التعليمية أو الخيرية ذات النفع العام. ويمكن اللجوء لتلك الوسائل في الجرائم البيئية أو جنح البلدية أو التجارة أو بعض الجرائم البسيطة في القوانين الطبية أو بعض جرائم الاعتداء الجسدي.
3 - الطلب من المتهم إصلاح الأضرار وجبرها لمصلحة المجني عليه، بالطريقة التي من شأنها إعادة الحال كما كان عليه، ويمكن اللجوء لتلك الوسيلة في جرائم الاعتداء على أملاك الغير أو إتلافها أو الانتقاص من قيمتها. كما يمكن اللجوء لهكذا وسيلة في الاعتداء على أملاك الدولة الخاصة العقارية أو المنقولة.
4 - الطلب من المتهم – في حالة موافقة المجني عليه – بالدخول في مباحثات صلح بإدارة ورقابة وسيط يعينه المحقق بين المتهم والمجني عليه للتوصل إلى تعويض عادل يوافق عليها الأطراف، ويصدق بمحضر رسمي، وفي حالة نجاح هذه الوسيلة، فإنه يتنازل المجني عليه عن المطالبة بتعويض مدني منفصل. وتتميز هذه الوسيلة في تجنيب المجني عليه عناء المطالبة المدنية، وتكاليفها، ووقتها، وجهدها.
5 - الطلب من المتهم عدم ارتياد مكان معيَّن يحدده المحقق المختص خلال مدة محددة ذات علاقة بالجريمة محل الاتهام، أو الالتزام بعدم التواصل مع المجني عليه أو التعرض له، أو عدم التواصل مع بقية المساهمين في الجريمة، سواء كانوا فاعلين أصليين أم شركاء بها خلال فترة محددة. ويمكن للتحقق من تنفيذ ذلك الالتزام تبني فكرة السوار الإلكتروني.
6 - الطلب من المتهم تسليم رخصة القيادة أو المركبة لمدة معينة لا تجاوز المدد الواردة في القانون. ويمكن اللجوء لتلك الوسيلة في جرائم جنح المرور، بجميع أنواعها، عوضاً عن اللجوء إلى المحاكمة التقليدية أو الأمر الجزائي في تلك الجرائم.
تتبنى الوسائل البديلة عن الدعوى الجزائية هدفاً إصلاحياً في المقام الأول، وتنظيمياً في المقام الثاني. فمن حيث الهدف الإصلاحي تسعى الوسائل البديلة إلى إبعاد المتهم عن المؤسسات العقابية بالقدر المستطاع، لتجنب مخالطة المتهم لغيره من المجرمين، خشية مغبة تبادل الخبرات الإجرامية، علاوة على ما تشكله تلك المؤسسات من فكرة ثأرية أكثر منها إصلاحية، في حين أن الوسائل البديلة للدعوى العمومية تهدف إلى إبقاء المتهم في بيئته الطبيعية، مع إلزامه ببعض الالتزامات ذات الأبعاد الفسيولوجية أو النفسية أو الاجتماعية أو الفكرية أو الدينية على ذاته البشرية. أما من حيث الهدف التنظيمي، فإن الوسائل البديلة تتجنب إغراق القضاء الجزائي بحزمة كبيرة من القضايا ذات الجسامة البسيطة إلى المتوسطة، والتي من الممكن أن تكون نهايتها القانونية لدى جهاز التحقيق والاتهام.
ثالثاً: تبني نظام الاعتراف المسبق بالذنب
ويأتي هذا النظام في مرحلة متقدمة عن الوسائل البديلة عن الدعوى الجزائية، حيث يعتبر نظام الاعتراف المسبق بالذنب وسيلة مستحدثة للحكم الجزائي، وليس للدعوى الجزائية فحسب، لأنه كما يسميه الفقه القانوني يقلب المحقق إلى «نصف قاضٍ»، لسببين، الأول: أن هذا النظام يتضمن عقوبات تقليدية بالمعنى الدقيق، لأنه موجَّه لجرائم أكثر جسامة من تلك المستخدمة في الوسائل البديلة عن الدعوى الجزائية، والثاني: أن المحقق المختص هو المنوط باقتراح العقوبة على المتهم.
ونظام الاعتراف المسبق بالذنب صورة من صور العدالة التفاوضية والرضائية، حيث إن المتهم يقر بارتكابه للجرم، ويتجنب الدخول في إجراءات المحاكمة التقليدية، والتي قد تكبده عناء الوقت والجهد والمال دون ضمانة لجسامة العقوبة التي سينطق بها القاضي. أما في حال قبوله الدخول في نظام الاعتراف المسبق بالذنب، فإن المشرِّع يستطيع أن يقيد المحقق باقتراح عقوبة على المتهم لا تجاوز ثلث أو ربع الحد الأدنى للعقوبة المنصوص عليها في القانون، سواء عقوبة حبس أم غرامة. كما يستطيع المحقق أن يقترح عقوبة الغرامة فقط دون غيرها إن كان النص الجزائي محل التطبيق يجيز ذلك.
ولضمان الالتزام بالضوابط الدستورية بشأن توقيع العقوبة بناءً على هذا النظام، فإن المشرِّع يستطيع أن يشترط حضور محامٍ مع المتهم، وعرض الأمر على قاضي الموضوع، لعرض الاتفاق المتوصل إليه بين المحقق والمتهم بشأن العقوبة، ولقاضي الموضوع كامل الصلاحية بشأن قبول الاتفاق المبرم أو تعديله لمصلحة المتهم أو رفضه، مع إلزام المحقق بإحالة الدعوى إلى المحكمة. وبذلك يكون هذا النظام قد أمن ضمانات المحاكمة العادلة دون أن تكون هناك مظنة التأثير على حرية وإرادة المتهم.
ويمكن تطبيق نظام العقوبة التفاوضية على الجرائم ذات الجسامة المتوسطة، كما في جرائم النصب والشيك من غير رصيد، وجرائم السرقات الموصوفة، وبعض جرائم المخدرات، كالتعاطي في حالة العود، أو جرائم العنف الأسري، أو بعض جرائم إتلاف الممتلكات العامة، وغيرها من الجرائم المتوسطة. ولإنجاح نظام الاعتراف المسبق بالذنب يمكن تجنب تضمينه لعقوبة الحبس مع إمكانية تقديم التصورات التالية كنماذج للعقوبات التفاوضية:
1 - الغرامة: على ألا تتجاوز الحد الأدنى المنصوص عليه في القانون، لإنجاح نظام العقوبة التفاوضية.
2 - المصادرة: وبه يلزم المتهم بتسليم الأشياء التي استعملت في الجريمة أو كان من شأنها أن تستعمل في الجريمة أو متحصلاتها.
3 - الحجز المؤقت للأشياء والرخص: كالسيارة أو رخص القيادة أو حيازة السلاح أو الرخص التجارية.
4 - العمل لدى الدولة أو إحدى مؤسساتها أو الشركات أو المصانع التابعة لها أو إحدى جهات النفع العام بمقابل رمزي، ويحدد القانون أو اللائحة التنفيذية له جهات العمل.
5 - الحظر: وقد يشمل حظر بعض التصرفات القانونية، كإصدار الشيك أو إدارة الأموال أو تولي الوكالات أو إبرام العقود أو مزاولة مهنة أو حرفة أو العمل لدى الدولة لفترة محددة لا تزيد على أدنى مدة من مدد رد الاعتبار. كما قد يكون بصورة حظر الاقتراب أو التواصل مع المجني عليه أو غيره ممن تحددهم العقوبة التفاوضية أو حظر السفر.
6 - إصلاح الأضرار التي لحقت بالمجني عليه أو بالدولة نتيجة ارتكاب الجريمة.